تالياً للنقاش السابق، فإن ثمة سؤالا لا بد أن يكون شرعياً في كل الأحوال يتعلق بمسببات فشل مشاريع الوحدة العربية، أو بكلمات أكثر وضوحاً قصر المبادرات على مستوى الفكر والممارسة التي سعت أو زعمت أنها تسعى من أجل وحدة العالم العربي.
لقد مر زمن كانت مثل تلك الأفكار والمشاريع والمقترحات والمبادرات لغة العصر وكان الاصطفاف يجب أن يكون على جانبي خطر تمثله هذه الأفكار.
ومع هذا فإن كل مبادرات الوحدة العربية وقفت على تخوم الادعاء والتنظير ولم تصل مشارف التحقيق.
وربما جاز القول بعد عقود من فشل تلك المشاريع وانعدام أي أفكار جديدة بالخصوص إن جهوداً حقيقية لم تبذل في إطار استعادة وحدة العالم العربي.
هذا لا يعني اتهام النوايا بقدر محاكمة النتائج. المؤكد أن جميع المشاريع التي تأسست على أفكار وحدوية ظلت في مهدها ولم تخرج إلى النور بل إنها مع الزمن تحولت إلى مادة احتراب بين النخب السياسية ومادة للسجال لا حول الأفضل للعالم العربي وفي المسعى لتحقيق الخير العام بل في إطار التنافس والاقتتال على التسييد وعلى الصح والخطأ.
لقد دفعت الحالة العربية أثماناً باهظة نتيجة الخلافات العربية العربية التي كانت تجد دائماً ما يغذيها في مصالح القوى الكبرى، وظلت الحالة العربية عقيمة غير قادرة على تجاوز أزماتها الداخلية التي ظلت تعاني منها عقوداً وراء عقود حتى اللحظة.
إن السمة الأبرز في العلاقات العربية العربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين حتى اللحظة هي الخلاف.
ظهرت خلافات كثيرة بعضها تم توارثه من حقبة الاستعمار وبعضها تمت صناعته في إطار تصوير العلاقات بين الدول العربية بأنها تنافسية لا تشاركية وتكاملية.
إن الصراع العربي العربي والشقاق العربي العربي ظل سمة بارزة لعقود طويلة وصل في الكثير من الأحيان حد الاقتتال والنزاع المسلح، واصطف بعض الدول مع دول أخرى ضد مجموعة ثالثة.
حالة من الفوضى العربية العربية ساهمت بشكل سلبي في تأخر إنجاز أي مشروع تحرري عربي حقيقي كما أعاقت مشروع استعادة فلسطين التي بات من المؤكد أن الحالة العربية لم تكن جدية في قتالها من أجلها.
بل إن ثمة شكوكاً متنامية ولدى البعض باتت راسخة أن الكثير من الأطراف العربية كانت شريكة في مسلسل ضياع فلسطين.
ولقد ظلت فلسطين لفترات طويلة مادة أساسية في الصراع العربي العربي في إطار المزاودات لا في إطار السعي لإنجاز الأفضل والأكثر قربا من تحقيق التحرير والنصر. بمعنى آخر تم توظيف فلسطين في الصراعات العربية الداخلية وكانت مادة للمزاودة ولم ترتقِ الحالة العربية للنظر للصراع مع المشروع الصهيوني بوصفه تهديداً وجودياً للأمة العربية، بل علاقات دافئة كانت مبطنة وخفية تسود بين الكيان الجديد وبين بعض القوى. إن مثل هذه العلاقات بات الآن علنياً وفاضحاً لكنه كان دوماً موجوداً.
ومع هذا يظل السؤال مشروعاً: لماذا لم تنجح مشاريع الوحدة العربية ولم ترتقِ لمستوى التنفيذ.
كان الحديث عن استخدام فلسطين وتوظيفها في أفضل الأحوال في الصراع العربي العربي مهماً لفهم جزء من الإجابة عن السؤال السابق. فبالقدر الذي تم توظيف فلسطين في تنافس القوى العربية وفي تبادل التهم والتخوينات والتبعية لجهات مختلفة في المعسكرات الدولية والإقليمية المختلفة تم توظيف الأفكار والمقترحات القومية في الصراعات والتنافسات العربية البينية.
لم يكن ثمة مقترحات جدية من أجل إنجاز مشروع الوحدة العربية كان هناك توظيف ربما في بعض الأحيان عن حسن نية، ولكن في كل الأحوال لم يتعد مجرد الاستخدام الأدواتي، للأفكار القومية النبيلة في تسجيل نقاط وفي السعي للكسب على حساب الآخرين.
يمكن لتحليل قصير للقوى التي تبنت الأفكار الداعية للوحدة العربية أن يكشف الكثير حول هذا التوظيف.
كانت الأفكار تأتي محمولة على طموح صاحبها أو أصحابها بالهيمنة على الحالة العربية ولم يكن ثمة من يمتلك رؤية ثاقبة حول كيف يمكن توحيد الدول العربية في دولة واحدة. كان الكل يسعى للسيطرة على الكل وكان الكل يخاف من نوايا الكل. لذلك مثلاً فشلت التجربة الوحيدة التي تم فيها دمج دولتين عربيتين في الستينيات وأقصد تجربة الوحدة المصرية السورية.
ليس هذا موضع مناقشة أسباب فشل الوحدة بين الدولتين الكبيرتين ولكن المؤكد أن مثل هذا الفشل يعكس الكثير هو تغليب مصالح الدولة القطرية على مصالح الوحدة المرجوة.
في مثال آخر لا يمكن فهم لماذا تظهر أكثر من فكرة تسعى لتوحيد الحالة العربية.
فمن القومية إلى وجهها الآخر الناصرية ومن البعث السوري إلى البعث العراقي.
يصعب تفسير هذا التشتت إلا في إطار ما أشرنا إليه من السعي لاستخدام تلك الأفكار وتوظيفها في المساعي الخاصة بكل طرف لقيادة الحالة العربية.
وكان الصراع حول الوحدة يحتد كثيراً حتى أن ترك آثاره على الحالة الفلسطينية التي بات جزءاً من خلافات فصائلها جدلُ البيضة والدجاجة، أقصد الوحدة طريق العودة أم العودة طريق الوحدة، وكيف يمكن التوفيق بين المشروعين.
لم يعد هناك من يتحدث عن الوحدة العربية وتراجع الحراك حتى على مستوى التنظير.
لقد تم حسم الأمر وكأنه صراع سابق بين الدولة القطرية وبين الدولة الكبرى لصالح صمود الدولة القطرية، ولم يتم تطوير الأفكار الوحدوية لتتكيف مثلاً مع الواقع العربي الجديد وهو جملة الأفكار التي تناولناها في المقالين السابقين هنا، وهذا بحد ذاته يعكس سوء فهم للنظرية المرجوة حيث يتم وضع الأمر في إطار صراع وليس في إطار بحث عن المشترك والتكامل وسد النواقص المتبادل. إنه الصراع الذي خلقه الاستعمار الذي رحل وبقي في الوقت نفسه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد