الجامعة العربية ليست في أحسن أحوالها مثل الحالة العربية عموماً، وتعاني من الكثير من الأزمات التي يمكن لها أن تشير إلى حقيقة أكيدة أن الجامعة لم تعد جامعة، وأن مقدرتها على احتواء الحالة العربية تكاد تكون صفراً؛ في ظل ما يعصف بها من أزمات وفي ظل الخلافات العربية العربية غير المسبوقة. ويمكن للمرء أن يقول: إن العطب أساس وجوهري في الحالة العربية منذ التكوينات الأولى للجامعة في النصف الأول من القرن العشرين، وهذا صحيح نسبياً، لكن المؤكد أنه لم يكن يوماً يسري في عروقها مثلما هو الحال الآن حتى يصعب الحديث بيقين عن وجود حالة عربية، ناهيك عن جامعة عربية حقيقية.
قضيتان مركزيتان عمقتا الأزمة العربية. تتمثل الأولى في تبعات ما يعرف بالربيع العربي، فيما تتمثل الثانية بموجة التطبيع وتفكك الموقف العربي حول الحد الأدنى من القواسم المشتركة فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل. هاتان القضيتان كشفتا بشكل كبير هشاشة الحالة العربية وربما غيابها من الأساس. المؤكد أن اللحظة الراهنة هي نتاج تراكمات كبيرة سابقة، إذ إن الصراع بين الدول العربية وتعارض مصالح تلك الدول كانا دائماً ينخران جسد الحالة العربية، وكانت المواجهة لا التشاور هي ما يميز هذه الحالة، ولكن ما حدث في العقد الأخير هو انهيار آخر الجدران الرقيقة التي كانت تعطي الانطباع بوجود شيء عربي مشترك.
لقد ضرب ما بات يعرف بالربيع العربي الحالة العربية في مقتل. فهو من جهة ساهم في إضعاف الدولة القُطرية العربية بشكل كبير أكثر من نجاحه في دمقرطتها، وتحولت مشاريع التحول الديمقراطي إلى كوابيس تهدد وحدة حال الدول التي ضرب شواطئها موج هذا الربيع. ومن المؤكد أن علينا جميعاً الآن أن نتحفظ على مصطلح «ربيع عربي»؛ لأن نتائجه لم تقد بأي حال إلى أي تحول إيجابي في الحالة العربية. صحيح أنه تم التخلص من بعض النظم غير الديمقراطية إلا أن المؤكد أن الديمقراطية لم تعد الحالة السائدة التي تنظم علاقة المواطن العربي بأجهزة الدولة، وربما أن الوضع السابق بالنسبة للكثيرين كان أفضل. ولمّا أننا لسنا بصدد وضع تقييم خاص بكل دولة، فإن الشيء الثابت أن النتائج السلبية لهذا الربيع هي الشيء الأكثر شهرة عنه. وبنظرة خاطفة يمكن التيقن من أن الدول التي مسها هذا الربيع واجهت صعوبات جمة حتى وصل بعضها للاستقرار، وبعضها ما زال يعاني حتى اللحظات من هجمات الإرهاب ومحاولات التفكيك وتدخل القوى الإقليمية والدولية في ميادين معاركه. هذا بدوره أضعف ليس الدول فحسب، بل أيضاً الجامعة التي لم تعد صاحبة كلمة، ولم تستطع أن تكون صاحبة قول فصل في أي أزمة عربية داخلية، ناهيك عن الأزمات العربية البينية. وبالتالي عمّق المزيد من تلك الأزمات التي كانت الجامعة تواجهها طوال عقود سابقة.
على صعيد آخر، فإن الربيع العربي لم يعن فقط أزمات داخلية للدول التي عصف بها، بل أيضاً أزمات بين الدول العربية نفسها. فالكثير من الدول تدخلت بشكل واضح في الشؤون الداخلية لبعض الدول التي تعرضت لثورات داخلية واقتتال داخلي. وكان هذا الاقتتال هو كلمة السر في هذه التدخلات للدرجة التي تحولت فيه مع الوقت أزمات بعض الدول إلى أزمات مع دول عربية، وصار تدخل بعض تلك الدول هو المشكلة الحقيقية في عدم استقرار بعض الدول. والنتيجة مركبة، حيث بات العدوان والتوتر هو السمة البارزة في علاقات الكثير من الدول، ما ترك أثره بشكل واضح على مجمل الحالة العربية.
القضية الأخرى التي عمقت جراح الحالة العربية تمثلت بانهيار آخر المواقف العربية حول الحد الأدنى، والمتعلق بالمبادرة العربية. مع انهيار الحالة العربية السياسية وذهاب بعض الدول العربية لإعلان تطبيع علاقتها مع إسرائيل بشكل سافر، وربما أن مسارات بعضها فاق كل توقع في الذهاب عميقاً، فإن المبادرة العربية باتت في غياهب النسيان. المبادرة التي لا تشكل شيئاً أكثر من الاتفاق على القليل من أقل القليل حول ماذا يمكن للعرب أن يتوقعوا من أجل أن يبرموا السلام مع إسرائيل التي سرقت المناطق العربية لم تعد موجودة عملياً؛ إذ إن هذه الدول ذهبت لتطبيع علاقتها مع تل أبيب دون شرط ودون أي استحقاق. قدمت هدايا مجانية حتى أن إسرائيل استغربت وقوعها.
لم تكن مبادرة السلام العربية بالشيء النموذجي، ولا هي تشكل حالة كبرياء عربية جامحة، بل كانت تعبر عن الحد الأدنى الذي يمكن كبح جماح البعض فيه، وترتيب المواقف السياسية العربية حول أهم قضية تاريخية واجهت وتواجه الأمة العربية. طوال عقود كانت القضية الفلسطينية هي جوهر النقاشات العربية، وهي التي تحدد خارطة الأصدقاء والأعداء، وكانت الصراعات العربية العربية والمنافسات على الريادة والزعامة العربية تمر عبرها. الآن مع انهيار تلك الحدود الدنيا لم يعد ثمة ما يجمع العرب، خاصة أن القضية الفلسطينية ليست قضية داخلية لأي دولة، وبالتالي كانت دائماً تعبر عن المشاعر الدفينة لفكرة العروبة والوجدان العربي المشترك.
الحالة العربية تبدو محزنة، فالكثير من الدول العربية في حالة تفكك، وبعضها يشهد حروباً داخلية، وبعضها يهاجم بعضها الآخر، وبعضها صار إسطبلات لصراع خيول الآخرين، ولم تعد ثمة مصالح عربية مشتركة ولا قضايا كبرى توحد الحالة العربية، ولا ثمة مشاعر قومية يمكن لها أن تعيد تذكيرنا بحقيقتنا كأمة حكمت الكوكب وكانت قوته العظمي لقرون من الزمن. وعليه فإن هناك الكثير الذي يجب أن يتم العمل عليه من أجل استعادة الحالة العربية، ربما بوابة ذلك إعادة الاعتبار للجامعة العربية وتفعيلها وإصلاحها، وجعلها حقاً مظلة العرب الحقيقية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد