في هذا العنوان يوجد الكثير من المجاز لأن لابيد لا يملك لنفسه دلواً خاصاً يدلي به، الآن، على الأقل.إذاً، «لن» يتفاوض لابيد، كما صرح مع القيادة الفلسطينية، وليس في نيته أن يفعل، أو يذهب بعيداً بهذا الاتجاه. دعونا نحاول أن نفهم هذا «اللابيد» بقدر ما هو متاح.
الذي يسمعه يظن أن تسلّمه لرئاسة الوزراء في إسرائيل مسألة مفروغ منها، وأن كل الظروف جاهزة ومهيأة لكي يتربع هناك، وأن كل الظروف تعد نفسها للاحتفاء به، وأن ما ينقصه، وما تبقى له هو الفاصل الزمني بين موعد تصريحاته والموعد «المتفق» عليه في هذا الائتلاف.
أما الحقيقة فهي أن لابيد وبسبب معرفته بأن شركاءه من عُتاة اليمين لن يسلّموه رئاسة الحكومة في النصف الثاني من ولايتها إلاّ إذا انضبط للقواعد الناظمة لهذه الحكومة، وهي قواعد لا يقع في صلبها عدم التفاوض مع القيادة الفلسطينية، وذلك أن مبدأ الشراكة بين مكوناتها لا يتضمن أصلاً أي مضامين سياسية تصل إلى التفاوض من عدمه مع القيادة. وبالتالي فإن ما صرّح به في الواقع لا يعدو كونه مزاودة سياسية تعكس خوفه من الخروج على إجماع اليمين المتطرف الذي «لمّه» مع بقية خارطة المتناقضات الإسرائيلية التي شكلت الائتلاف الحاكم في تل أبيب.
هذه الحكومة تشبه (خُرج الساحر) كما يُقال عندنا. ففي هذا الخرج (الكيس) ستجد الثعابين والسعادين، وستجد الذئاب والثعالب والعقارب، إضافة إلى الصقور والحَمام وبعض اليَمام.
وستجد من يقول لك إنه لن يتفاوض أبداً، وستجد من لن يتفاوض بسهولة ويُسر أو بسرعة، وستجد من سيفاوض في بعض النواحي دون أخرى، في حين ستجد من يقول: لا بد من التفاوض، ولا مجال من دون هذا التفاوض.
لكن الأمر الأهمّ هنا أن التصريح بعدم النية بالتفاوض ليس مطلوباً من لابيد كشرط من شروط هذا الائتلاف، وذلك ببساطة لأن بعض شركائه يرون عكس ما يراه تماماً.
هذا يشي بأن كل ما يريده لابيد هو العمل بكل وسيلة بهدف تجنيب هذا الائتلاف أي أزمات أو مشكلات يمكن أن تودي به أو تؤدي به إلى الانفراط قبل أن يتمكن من الوصول إلى ذلك الكرسي الذي يعتقد أنه أصبح في الفمّ أو يكاد.
أما حقيقة موقف لابيد فهي غير ذلك، وهو يعرف ذلك، وهو يعرف أن الآخرين يعرفون ذلك، كما يعرف أننا نحن، أيضاً أكثر من نعرف عن ذلك.
وبالفعل فقد لفت الانتباه تصريح لابيد بهذا الشأن، وأثار استغراب من كان يتابع أقواله إبّان الحملة الانتخابية.
صحيح أنه حاول التماهي مع اليمين في تلك الحملات لكنه لم يقل أبداً إنه لن يتفاوض مع الفلسطينيين.
إذاً تحول عدم التفاوض مع الفلسطينيين إلى «موضة» سياسية يمينية تشبه تقليعات الملابس الضيّقة من الأعلى ومن الأسفل، والبناطيل الممزّقة وقصّات الشعر الغرائبية.
طبعاً لم يقل لنا لابيد لماذا لا يريد التفاوض بعكس ما يقوله بينيت وما يكرره في كل مناسبة.
الصحيح أننا نتحمل جزءاً من هذه المسؤولية، وأقصد القيادة الفلسطينية، لأنها أعطت لواحد مثل بينيت، بأن يتفاخر بأنه لا يرغب بالتفاوض مع الفلسطينيين، وحتى وصل الأمر بواحد مثل لابيد ليكرر ذلك حتى وإن كان بدرجةٍ أقل من التفاخر.
لأن أصل المسألة هو أننا نحن من أوقف التفاوض مع نتنياهو، وكان يُفترض بنا أن نحول التفاوض معنا إلى شرط مسبق للجلوس معنا، أو بالأحرى أن نضع الشروط للجلوس أو التفاوض معنا، وما كان يسري على نتنياهو كان يجب أن يسري على الحكومة الحالية، ولو فعلنا ذلك لكان أقصى ما يمكن أن يطرحوه هو «استعدادهم» للتفاوض ولكن دون شروط مسبقة، ولذهبوا إلى نفس ما ذهب إليه نتنياهو آنذاك وليس أكثر.
وبصرف النظر عن اختلاف الاجتهادات هنا فإن لابيد في الواقع ما زال يلعب في الملعب الانتخابي وليس السياسي.
فهو من جهة ليس واثقاً من وصوله إلى كرسي رئاسة الوزراء، وهو من جهة أخرى يعرف هشاشة هذه الحكومة والمطبّات التي يمكن أن تقع فيها في أي لحظة، وإمكانية سقوطها معروفة ومكشوفة له ولغيره، وهو بالتالي يريد إذا ما ذهب إلى الانتخابات أن «يلملم» من أصوات اليمين ما يستطيع أن يلملم، على اعتبار أن «الوسط» و»اليسار» هم بحكم الحلفاء الطبيعيين، ولأن لابيد هو الثعلب الحقيقي من بين أقطاب هذه الحكومة، ولأنه «الأذكى» في الحسابات الانتخابية، ولأنه الأكثر «تأصيلاً» في مواجهة نتنياهو والليكود، وفي صدّ الأحزاب الدينية فهو يفضل، الآن، أن يظهر بمظهر اليميني الكامل.
الحقيقة أن أكثر ما يخشاه لابيد هو أن يعود اليمين، من كل أنواع اليمين للتكتل من جديد.
أقصد إذا تخلص الليكود من نتنياهو، وقدم بعض التنازلات لكل من ساعر وليبرمان، والتحق بذيلهم بينيت، ومجموعته التي تتقلص يوماً بعد يوم، فإن هذا التكتل سينافس بشدة على الفوز بالانتخابات، حتى دون مشاركة الأحزاب الدينية في حكومة يشكلها مثل هذا التحالف، تماماً كما قام التحالف القائم اليوم بدعم من «القائمة الموحدة» دون المشاركة المباشرة فيها.
هذا هو ما يقضّ مضاجع لابيد، وهذه هي حقيقة مخاوفه وهواجسه. الشيء الذي يجب أن يُقال له ولأقرانه أقطاب اليمين والتطرف في إسرائيل: إن اليوم الذي تجدون أنفسكم تستجدون التفاوض مع الفلسطينيين لم يعد بعيداً، وسنرى كيف سيتحول التفاوض معنا إلى مطلب سياسي ملحّ في إسرائيل كما في الإقليم وفي العالم، أيضاً.
من قال للابيد ولغيره إن الشعب الفلسطيني لا ينام الليل لأن هؤلاء لا يريدون التفاوض مع القيادة الفلسطينية؟ ومن أفهمهم أصلاً أن الشعب الفلسطيني هو أصلاً راضٍ عن التفاوض معهم؟
القيادة الفلسطينية تعرف جيداً وقبل غيرها المزاج الشعبي على هذا الصعيد، وتعرف أن مجرد اللقاء مع بعض رموز هؤلاء لا ينال رضا الفلسطينيين، وأن الناس تتقبل هذه اللقاءات أحياناً على مضض كبير، أو أنها تفهم وتتفهم بعض الحاجة إليها في ظروف معينة ليس إلاّ.
أما الأمر الآخر، وربما الأهم الذي كان يفترض أن يفهمه لابيد هو أن الحكومة التي يتطلع بشغف خاص لرئاستها، إن لم تسقط بسبب المطبات التي أتينا على ذكرها فستسقط لأن الشعب الفلسطيني قبل الموعد الذي ينتظره لابيد سيغلق كل الطرق عليه مهما بدت له سالكة في هذه الأيام.
وأدعو بهذا الصدد إلى أن نقرأ بصورة فاحصة ونقدية كيف أن كل حكومات إسرائيل ومنذ أكثر من ثلاثة عقود كانت تسقط بسبب فلسطين سواء لأسباب مباشرة أو غير مباشرة.
وهناك الكثير الكثير من القيادات الإسرائيلية التي قتلت بسبب التفاوض معنا، وهناك من اكتأب وانطوى وانزوى، ومن صعد وتهاوى، ومن «صمد» ثم توارى.
هناك محطات سياسية فاصلة قادمة على الأجندة الفلسطينية، وهناك محطات جماهيرية ومعارك شعبية قادمة ستقطع الطريق على كرسي رئاسة الوزراء في إسرائيل وقبل الموعد الموعود بما يكفي من الوقت.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية