لم يخل عام 2021 المنصرم من تقاطعات الألم والأمل الفلسطيني على درب نضاله المتواصل، فكم البطولات والتضحيات الكبير بقي حاضراً، ومتواصلا منذ بداية عمر الجرح الفلسطيني، يقابله في الجانب الآخر اتساع رقعة المعاناة من قتل وتشريد واضطهاد، ومختلف افرازات الاحتلال من فقر وعوز وبطالة، وتردٍ في الأحوال المعيشية، والاجتماعية والتعليمية والصحية.. وغير ذلك.

فقد سالت خلال العام المنقضي دماء أوفى من خلالها الفلسطيني نذره ووعده تجاه أرضه وشعبه ومقدساته، كما سالت دموع تبرهن في كل دمعه منها على إنسانية الفلسطيني، وتفاعله كباقي البشر مع المأساة بالحزن واللوعة، ومع الفرحة المفاجئة، وإن شحت وكانت طارئة، بشيء من الدمع، ليؤكد بأنه على طبع العاشق للأرض، وعلى سجيته، يفرح حين تحين لحظة الفرح، ويجهش بها حين يطول أمد غيابها.

تداعيات ما تشهده القضية الفلسطينية من مستجدات وانتكاسات حتّمت على الفلسطيني أن يجود بالمزيد من الدماء، حتى وإن واجه الجندي المتمترس، والمدجج بأحدث الأسلحة، وأسرعها وأشدها فتكا، بصدره ويديه العاريتين، فالنفير من أجل الأرض والمقدسات ليس له أن ينتظر ساعة الصفر حتى تحين، وربما لا تحين في ليل هذا الزمان المدلهم، بينما نفس الحر لا تحتمل نهباً للكرامة والمروءة.

هذا ما تفصح عنه الوتيرة المتصاعدة لنضالات الشعب الفلسطيني ضد المحتل الغاصب والسارق لأرضه، حيث تتنوع أشكال وآليات المقاومة بما يتناسب وطبيعة المواجهة مع قوات الاحتلال، وما يوازيه من تطور لأساليب القمع والانتهاكات التي تمارسها سلطات الاحتلال، والتي تشتد ضراوة وإجراماً يوماً بعد آخر.

كما تشير الإحصائيات ذاتها إلى تصاعد المقاومة الشعبية بشكل ملحوظ في الضفة و القدس ، حيث وقعت العديد من المواجهات، وقف خلالها أبناء الشعب الفلسطيني بشجاعة منقطعة النظير، يتحدّون الآلة العسكرية لدولة الاحتلال، ويواجهون صلف الاحتلال وطغيانه، بما في ذلك قطعان مستوطنيه، بأقل القليل من وسائل النضال، مما يضاعف من حجم التضحيات لدى أبناء الشعب الفلسطيني.

وليس تفجر الأوضاع في مدينة القدس بدءاً من انتفاضة باب العامود التي شهدت اعتداءات لجيش الاحتلال على المصلين، واستبسال الفلسطينيين في التصدي لهم، وصولاً لصمود أهالي حي الشيخ جراح المهددين بالطرد من منازلهم، سوى ثوابت وإثباتات لا تحتمل التأويل على تجذّر الفلسطيني في أرضه، وبأن الأرض والمقدسات خطوط حمراء تبذل من أجلها الدماء رخيصة، تلك الأرض المقدسة التي تداعت من أجلها عزيمة المقاومة الوثابة في غزة ، التي لبت نداء الوطن، والأهل والمقدسات في القدس المحتلة.

ليوظّف بعدها جيش الاحتلال أذرعه الأخطبوطية التدميرية في كافة أنحاء الأرض الفلسطينية، في القدس وغزة، والضفة، ومدن الداخل المحتل عام 1948، التي اشتعلت تحت أقدامه، والتي قالت كلمتها من جديد بأن أبناءها الأوفياء ما زالوا يسلّمون رايتها من جيل إلى جيل، لتبقى خفاقة، غير آبهين بمن قبِل بالهوان والنكوص هنا أو هناك، وبمن لهث طويلاً وراء سراب أعطيات الاحتلال، فقناعة أبناء الأرض ووعيهم راسخ بأن الاحتلال جاء لنهب الأرض وسرقة مقدرات الأمة، والهيمنة عليها، ولا شيء غير ذلك.

ولم يكن حدث تمكن الأسرى الستة من الهرب من سجن جلبوع شديد التحصين، سوى رسالة أخرى من الفلسطينيين بأن في جعبتهم المزيد من وسائل المقارعة والمواجهة مع الاحتلال، وبأن إبداعهم في ابتكار أساليب النضال لا ينضب، فضلاً عن ما تضمنته رسائل الأسرى حقيقة أن سجن جسد الفلسطيني لا يعني سجن روحه، فالروح تظل حرة طليقة، ملتصقة بعبق "دحنون"و"ميرمية" فلسطين، وتنساب بين أغصان أشجار زيتونها، وحبات صبّارها الشامخ.

وتختتم "برقة"، البلدة الفلسطينية المتكئة على أكتاف مدينة نابلس ، العام بصمود أبنائها الأسطوري، أمام توحش هجمات المستوطنين واستشراسهم في استفرادهم بالعزّل من السلاح، يساندهم جنود الاحتلال، لتلقن الغزاة درساً بأن للأرض حماتها مهما غلا الثمن، ولتسطر للتاريخ ملحمةً تتلخص فصولها ومضامينها في ارتباط الفلسطيني بأرضه، وبأن حفنة من تراب الأرض لا تعدل بالنسبة له كنوز الدنيا بأسرها.

يصر الشعب الفلسطيني على المضي في نضاله وصموده ومقاومته وتحديه للاحتلال، رغم إدراكه بأن ضريبة نضاله مرتفعة، وبأن لصموده ثمن باهظ، لا يتوانى عن دفعه، لقناعته بأن أرضه ومقدساته، لا تدخل في حسابات الربح والخسارة، ونظريات السوق و"التسعير"، بل هي معركته المصيرية لإثبات الكينونة والوجود، وارتباط ذلك بهوية وحضارة أمته العربية والإسلامية برمتها.

تلك الأمة الضاربة حضارتها في التاريخ، والتي اصطفيت لتكون مهد الشرائع السماوية كافة، حيث أنجبت الأنبياء، واحتضنتهم في ثراها، ومنحت الكون مرتكزات العلوم، وأسس التشريعات والنظم الأخلاقية، لم تبخل على أبنائها الفلسطينيين، الذين هم جزء منها، بالدعم، منذ بدايات محنة الاحتلال، سيما وأنهم حراس وسدنة مقدساتها في مدينة القدس، وأصحاب قضية عادلة، يرتبطون بأشقائهم من أبناء الأمة بوشائج الدم والدين واللغة والمصير الواحد، ارتباطاً عضوياً، لا انفصام فيه.

ومع بلوغ مرحلة دقيقة في تاريخ القضية الفلسطينية والأمة العربية جمعاء، نشهد فيها حدة الاستقطابات، وازدياد السعار الصهيوني من أجل تحقيق مكتسبات أكبر على الأرض، والانقضاض على المزيد من مقدرات البلدان العربية، يخدمه في ذلك ظروف أدت لضعف الاجماع العربي، وحدوث اختلال أو تعطيل في أداء الدولة العربية لأدوارها القومية المناطة بها، حيث بات هذا الواقع يستدعي مزيداً من الدعم لأبناء الشعب الفلسطيني كي يسهم بدوره في تقوية السد المنيع الذي يقف في وجه التمدد الصهيوني على حساب الأرض العربية وهويتها وحضارتها.

ومع مضي دولة الاحتلال، والدوائر الإمبريالية العالمية قدماً في إعادة تشكيل هوية وشكل المنطقة بأسرها، عبر مخططات سافرة حملت عناوين كـ" صفقة القرن "، في إطار شرق أوسط جديد، تبدأ بتصفية القضية الفلسطينية، ولا تنتهي عند مديات محددة أو واضحة لحجم الهيمنة وإخضاع دول وكيانات الأمة السياسية، فإن تكثيف الدعم السياسي والمادي للفلسطينيين، والتراجع عن ما جرى خلال الأعوام الماضية من تقليص لحجم هذا الدعم، بات حاجة ملحة ليس فقط من أجل دعم الحق الفلسطيني فحسب، بل لتدعيم أسس الدولة،والمنظومة العربية، والحفاظ عليها من التآكل، وبالتالي الإنهيار.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد