على غير العادة، قررت أن لا أبدأ العام الجديد، بالكتابة عن السياسة والأحداث التي وقعت خلال العام المنصرم، فلقد فعلت وفعل ذلك الكثير من الكتّاب والسياسيين، لكن الكلمات والأفكار بقيت في مكانها دون أن تترك لدى أصحاب القرار، أي أثر.
ربما يثير الحديث عن بعض الأفكار، والنصائح التي تتصل بأوضاع الصحة، في فلسطين، بعض الأثر، إن لم يكن على مستوى الحاجة للتغيير من قبل أصحاب القرار، فعلى الأقل من قبل المواطن.
نقترب من الذكرى السابعة والعشرين لقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث شهدنا تطوراً ملحوظاً على النظام الصحي، واكتساب الخبرة، وتقديم الرعاية والخدمة للمرضى، ولكن ثمة ما يستدعي لفت الانتباه إلى ضرورة التوقف لاتخاذ المزيد من القرارات والإجراءات، التي تكفل تحسين مستوى الخدمة كجزء من المسؤولية عن تعزيز صمود المواطن على أرضه باعتباره رأس المال الحقيقي، المتاح لتحقيق استثمار مجدٍ.
لا شك في أن ثمة فارقا كبيرا بين تكاليف العلاج، قبل سبع وعشرين سنة، واليوم، إذ كانت الإمكانيات محدودة، والتجربة كذلك، ما استدعى صرف موازنات كبيرة في مجال التحويلات العلاجية في الخارج.
التجربة تؤكد أن بالإمكان، تقليص هذا الثمن، لصالح تعزيز قدرات القطاع الصحي الوطني على كسب ثقة المواطن، وتقديم الخدمة له بما يضاهي المستوى الطبي الذي يتوفر في دول أخرى، بما في ذلك في اسرائيل التي يعتقد الكثيرون، أنها تحظى بمكانة متقدمة جداً.
في حالتين، رفضت أن ألجأ إلى التحويلات في الخارج، بالرغم من نصائح الأصدقاء، وبعضهم أطباء، من باب إظهار الحرص على الحصول على ما هو أفضل وأكثر أماناً. حين ثبتت بالتشخيص إصابة زوجتي بسرطان الثدي قبل أربعة أعوام، أصرّ أحد الأطباء الأصدقاء، على أن نبدأ بإجراءات التحويل إلى الخارج، ورافقني إلى الطبيب المختص في مستشفى الشفاء، لكي يطلب منه تسهيل ذلك. رفضت ورفض الطبيب المختص، وتابعت الإجراءات لإجراء العملية في مستشفى الشفاء الحكومي. وهذا ما حصل، فلقد نجحت العملية كما ينبغي، وبدأنا بمتابعة بروتوكول العلاج الكيماوي بما أنه متوفر في المستشفى. الطبيب المعالج، أكد لنا أن البروتوكول المعمول به في فلسطين ومنها غزة ، هو ذاته البروتوكول المعمول به في أميركا، وفي الدول المتقدمة.
حين أعوزتنا الحاجة، لدخول مرحلة العلاج الإشعاعي، جرت المتابعة، في القدس ، ولو كان ذلك متوفراً في غزة، لما اضطررنا للذهاب إلى أي مكان. في التجربة الثانية، وبعد إجراء الفحوصات، تبين أنني أعاني من تقلص في الشريان السباتي الذي ينقل الدم إلى الدماغ، مع وجود تكلسات لا تسمح بإجراء عملية قسطرة، وبالتالي تحتاج إلى عملية جراحية.
مرة أخرى جاءت النصائح، بأن ألجأ إلى التحويلات لإجراء هذه العملية الصعبة خارج الوطن، لكنني رفضت مرة أخرى، طالما أن ثمة إمكانية لإجراء عملية ناجحة في غزة.
لم نضيع أي وقت لإجراء ما يلزم حيث تمت التحويلة إلى مستشفى القدس التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.
جمعية الهلال الأحمر، واحدة من العناوين الرئيسة لمنظمة التحرير الفلسطينية وهي ربما الوحيدة في العالم التي تتجاوز الحدود الجغرافية، إذ إن لها خمسة مرافق في غزة، ومصر، ولبنان وسورية، بالإضافة إلى مركزها في القدس، حيث إنها المؤسسة الوطنية الوحيدة تقريباً التي حافظت على وجودها باسمها الفلسطيني رغماً عن الاحتلال.
الجمعية تحوز على إمكانيات جيدة، من مبانٍ فاخرة، وطواقم أطباء وإداريين وفنيين متمرسين، وأجهزة ولوجستيات، والأهم البعد الوطني والإنساني الملتزم، الذي يتحلى به طاقم العمل.
بالإضافة إلى ذلك، ثمة أطباء بمستوى خبرات عالية، قادرون على إجراء أصعب العمليات الجراحية بكفاءة وثقة عالية. هذا يعني أن كل عوامل الاطمئنان لنجاح العملية متوفرة فلماذا نحتاج إلى التحويلات للخارج؟
في فلسطين عموماً، وفي قطاع غزة، بسبب الظروف الطارئة، تراكمت لدى الأطباء، والطواقم المساعدة، خبرات وكفاءات مهمة، أرجح أنها تتفوق على ما هو موجود لدى دول أخرى في المحيط. حيث تصقل التجربة العملية، المكثفة العلوم التي يتلقاها الإنسان خلال مسيرته الأكاديمية.
بالرغم من ذلك ثمة حاجة ماسة لتحقيق تقدم أكبر وأوسع يمكن أن يساعد على تقليص مصاريف العلاج في الخارج إلى حدود بسيطة. نفكر لو أن جزءاً مهماً من تكاليف العلاج في الخارج، يجري استثماره في توفير الأجهزة الطبية الحديثة التي تساعد على التشخيص الدقيق للأمراض، بما يساعد الأطباء على تقليص الخيارات والتجارب الخاصة بالكشف عن المرض.
ثانياً: نحتاج إلى شيء من الإنصاف والتقدير وإظهار الاحترام للأطباء والطواقم الطبية، فالطبيب إنسان وكذلك الفني والممرض. لا لنعود إلى أزمة رواتب الموظفين في غزة، التي استهلكنا الكثير من الوقت والجهد لمعالجتها دون جدوى ولكن الطواقم الطبية والتعليمية ينبغي أن تكون بعيدة عن هذه الأزمة.
هؤلاء موجودون على رأس أعمالهم، ويقومون بوظائف تتعلق بحياة الناس، ومستقبلهم، ولذلك ينبغي ألا يكونوا في حالة شكوى أو عدم استقرار.
يعلم الجميع أن عشرات إن لم يكن أكثر من الأطباء الأكفاء وأصحاب الخبرة غادروا الوطن تحت وطأة الشعور بالظلم من قبل الجهات المسؤولة. وأظن أن هذا الاستنزاف يتواصل طالما يتواصل الشعور بالظلم فأي خسارة تلحق بالوطن والمواطن؟
جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، تستحق اهتماماً خاصاً، يمكن أن يترجم عمليا، فالجمعية تحتاج إلى تعزيز موازناتها التشغيلية، فهي مضطرة لأن تتعاقد مع أطباء وفنيين من خارج طواقمها لأنها لا تستطيع تغطية توظيفات جديدة، وتحتاج الجمعية إلى أن تحظى بنسبة أكبر من التحويلات العلاجية الداخلية، بما أنها قادرة على تلبية مثل هذه الخدمة عسى أن يوفر لها ذلك، مجالاً لزيادة إمكانياتها المادية.
وأخيراً، فإن مستشفى القدس في غزة بحاجة أيضاً إلى توفير أجهزة تشخيص متقدمة لكسب ثقة المواطن، الذي ينبغي هو الآخر أن يتلقى تثقيفاً مركزاً يعمق ثقته بمؤسساته الوطنية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد