خلال لقاء للرئيس أبو مازن مع نخبة من المثقفين والأكاديميين والسياسيين، استعرض تاريخ الصراع على مدار أكثر من ساعتين منذ بداية التوجهات الاستعمارية لسرقة فلسطين من أصحابها. وفيما ظلت الأحداث التاريخية الكبرى للأساطير في خلفية المحاضرة الغنية، إلا أن جوهر الحديث العميق تركز على ظهور ما بات يعرف بالأدبيات الأوروبية بـ»المسألة اليهودية»، التي كانت الدافع الأساس وراء خلق دولة كولونيالية في أرض فلسطين لليهود. لم يكن ثمة أي شيء له علاقة بالدين ولا بالحق، كل ما في الأمر أنه تم توظيف الدين وتطويعه، وكذلك مقولات الحق الإلهي غير الثابتة من أجل خدمة الدفع باتجاه إقامة الكيان الاستعماري في المنطقة.
تلاقت رغبة أوروبا في حل المسألة اليهودية مع طمع بعض قادة الحركة الصهيونية الناشئة من أجل سرقة بلاد الفلسطينيين. لم تكن المسألة اليهودية مسألة اليهود ولا مسألة العرب، بل هي مسألة أوروبية صرفة. إن التخلص من المسألة اليهودية يعني إخراج اليهود خارج أوروبا وإيجاد بلاد أخرى لهم. إن فكرة منح بلد أجنبي لشعب غريب من قبل قوة ثالثة جريمة كبيرة في التاريخ، لكنها وجدت آذاناً صاغية لدى كل الدول الأوروبية التي بدورها تريد أن تتخلص من عبء المسألة اليهودية.
وعليه، فإن الأمر كان أوروبياً بامتياز. إذ إن مشكلة اليهود في أوروبا هي وراء بحث أوروبا المبكر عن ترحيل اليهود وتجميعهم في مكان واحد. وفي نفس الوقت تصبح هذه الدولة الجديدة حليفة وأداة تنفيذ سياسات استعمارية لصالح الدول الكبرى. لاحظوا أن الدفع باتجاه إقامة وطن قومي لليهود كان في أتون صعود الاستعمار الغربي. وفيما يمكن العودة إلى تواريخ أبعد، إلا أن أولى المحاولات الجادة كانت تلك التي عبّر عنها نابليون وهو يغزو الشرق. ومن المفارقة أن جنرالات أوروبا وساستها، وربما على رأسهم بلفور ذاته، لم يكونوا متعاطفين مع اليهود بقدر ما كانوا يبحثون عن حلم أوروبا بالتخلص من المسألة اليهودية. ولعل مؤلف هرتزل الشهير بذات العنوان يثير متى تلاقت المصالح بين الصهيونية والدول الاستعمارية. فهرتزل قرأ مبكراً ما تفكر فيه أوروبا، واعتقد أن أفضل السبل من أجل تأمين مصالح اليهود هو عدم التصادم مع الدول الأوروبية، بل تشجيعها على تنفيذ مخططها بإقامة وطن قومي لليهود. وهرتزل، الذي فهم المعادلة بشكل صحيح، لم يكن مهماً بالنسبة له أين يكون هذا الوطن حتى لو كان في الأرجنتين. لاحظوا أعداد اليهود حتى الآن في الأرجنتين، أو حتى في أفريقيا. لكن بريطانيا التي باتت تتسيّد المصالح الأوروبية رأت أن يكون مكان هذه الدولة في منطقة الشرق الأوسط؛ من أجل تأمين مصالح تجارتها وطرق مستعمراتها في المنطقة. الأمر ليس مجرد وطن قومي، بل نقطة الارتكاز استعمارية تساعد على تنفيذ تطلعات القوى الكبرى في المنطقة، وربما ازدادت الحاجة إلى وجود هذا الوطن مع اكتشاف النفط، والأهمية الجديدة التي اكتسبتها المناطق العربية الصحراوية التي ستصبح دولاً غنية لاحقاً. ببساطة، فإن الأمر لا علاقة له بالدين ولا بالمقدس ولا بالحق الإلهي، بل بمخطط بشري ذي أبعاد اقتصادية في الأساس. من هنا، فإنه يصعب أن تجد دولة أوروبية عارضت قيام إسرائيل ولم تشجع الهجرة. تذكروا أن دول أوروبا الشرقية، التي باتت بسبب طبيعة الحرب البادرة حليفة منظمة التحرير وعبد الناصر وسورية، كانت كلها من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل وأمدتها بالسلاح. صحيح أن تلك الدول تعرضت للاحتلال النازي الذي أعمل مذابحه بحق سكانها اليهود وغير اليهود، وصحيح أن الكثير من المستوطنين الأوائل في فلسطين جاؤوا من تلك البلدان، ولكن الحقيقة أن حل «المسألة اليهودية» كان مهماً بشكل كبير بالنسبة لتلك الدول. الآن تبدو القراءة التاريخية مختلفة، وصار التقرب من تل أبيب بعد انهيار جدار برلين هدفاً منشوداً لكل دول حلف وارسو السابق من أجل نيل رضا واشنطن، ولكن الحقيقة أن ثمة شيئاً أعمق من تفاعلات اللحظة، يرتبط بحقيقة السعي الأوروبي الجماعي لحل المسألة اليهودية.
لم تنشأ تلك المسألة من هجرة اليهود من فلسطين إلى أوروبا. إذ إنه أقصى ما قد يذهب إليه التأريخ الكاذب للأحداث في المنطقة، لم تكن ثمة هجرة وتدفق بمئات الآلاف لأوروبا. والحقيقة أن السبي البابلي أيضاً بحاجة لقراءة لارتباطه بأحداث إن تمّت فقد تمّت بطريقة مختلفة، وليس لمجموعة بشرية يتم ذكرها في البحث الغربي. وبشكل عام، فإن تلك المسألة نشأت من صراع أوروبي داخلي، نتج عنه تهوّد وتبنٍ لليهودية على يد مجموعة بشرية تفرقت بسبب تفكك دولتها وعاشت في غيتوهات خاصة بها في الدول الأوروبية المختلفة، وقويت وتحكمت بمقاليد الاقتصاد والسياسة في الكثير منها.
ببساطة جداً، هذا صراع استعماري، وإن العودة إلى جذور المشكلة يبين بشكل جلي كيف أن الدين ليس إلا وسيلة ، كما أن استحضار تاريخ مزيف ليس إلا حيلة من أجل تمكين المستعمرين الجدد من سرقة البلاد، ومن خدمة المصالح العليا للقوى الاستعمارية. صحيح أن شكل الاستعمار الغربي اختلف، لكن جوهر الاستعمار القائم على الهيمنة وعلى سلب خيرات الآخرين ما زال قائماً. ما الذي يمكن أن نفهمه من ذلك؟
ببساطة علينا أن نواصل بقاءنا ونضالنا، والحرص على أن تظل قضيتنا حية؛ لأن أكثر ما يؤرق الاستعمار الصهيوني للبلاد أننا لم ننته كما كان مخططاً، وما زلنا نقاتل من أجل حقنا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد