في هذه الذكرى كم يعز علينا أن نؤبن القامة الوطنية الأخ العزيز المرحوم/ محمد سالم القدوة (أبو مجدي) أحد رهبان الوطن المميزين في فلسطين، والذين عكفوا على خدمته، وترهبوا في محرابه، ونتذكر شمائله الطيبة وخصاله الحميدة، فقد شغل العديد من المواقع المهمة التي تجسد الانتماء الوطني، والنسيج المجتمعي مع أهله وذويه وأبناء شعبه الذين عاش فيهم، ولهم، وبادلهم الحب وعاطفة القربى، وله فيه بعد ذلك جيران عاشرهم وأصدقاء عرفهم، وعمل معهم، وزملاء كان لهم في حياته العملية صحبة وفيّة على مدى الأيام، من أجل هذه العوامل القوية، ومن أجل هذه الذكريات العزيزة الغالية كانت هذه الكلمة - الناطقة بالتقدير البريء من كل مجاملة - إلى الأهل والأصدقاء والمحبين مستعيناً بالله ماتحاً من معين لا ينضب مما خبرت من خلال الخبرة والدراية.

عرفت الأخ العزيز محمد القدوة (أبو مجدي) عن قرب، والتقيته كثيراً أثناء المناسبات العديدة التي كان يقيمها ديوان الرقابة المالية والإدارية بمدينة غزة في الزمن الجميل قبل أحداث الانقسام عام 2007، وكانت فرصة للتحدث عن أحوال شعبنا بصورة عامة، وعن مسيرته الحافلة بصورة خاصة، فهو ابن فلسطين كلها، لكنه معجون في غزة وفي ترابها، والناس الذين يعرفونه عن قرب يلمسون ذلك، كان - رحمه الله - يعمل بصمت وسكينة بعيداً عن الأضواء، لا يبتغي إلا وجه الله – عز وجل – إذ شغل في محطات البذل والعطاء أول محافظ لمحافظة غزة، ورئيس غرفتها التجارية الأسبق، وعضو مجلس أمناء مؤسسة الشهيد ياسر عرفات، وعضو المجلس الوطني في منظمة التحرير الفلسطينية، وغيرها.

نقف اليوم، في محطات البذل والتضحية، أمام سيرة وطنية عطرة لشخصية فلسطينية اتصفت بدماثة الأخلاق، ورهافة الحس، وتميز تاريخها بالصدق والجدية والمثابرة، وجسدت بأنه إنسان بكل معاني هذه الكلمة وما تنضوي تحتها من معانٍ وخصال فريدة ممتازة، فحين نتحدث عن شخص مثل المناضل محمد القدوة، فلا نتحدث عن شخص عادي، بل عن ذلك الإنسان الذي عطرت سيرته أجواء الوطن.

آمن الأخ محمد القدوة بوطنه وبحقه في الحرية والاستقلال إيماناً مطلقاً، فكان من الداعين إلى الوحدة الوطنية، باعتبارها الطريق الأمثل للوصول إلى الغايات الوطنية المتمثلة في الحرية والانعتاق من نير الاحتلال، وكانت هذه الدعوة والسعي الأمين نحو تحقيقها هي محور نشاطه حتى آخر أيام حياته.

واشتهر المرحوم بالصبر أمام المحن والمصاعب، خاصة وأننا نعيش في قطاع غزة وسط حالة سيئة غشيها ما غشيها من الظلم والقهر والجمود، وكانت جرحاً دامياً في قلب كل أبناء الشعب الفلسطيني، هذا الشعب الذي تنكر له الزمان، وقست عليه الأيام، وعصفت به رياح الانقسام، وضاقت عليه الأرض بما رحُبت، هذا الشعب الذي ينام ولا يموت، أحوج ما يكون إلى مُثُله الراقية، والتزامه الواثق بأرضه وشعبه وتراثه العربي عندما ضرب المثل القوي على الصبر النبيل على المكاره، في الفترة الحرجة التي زُلزل فيها الوطن، وتجلى ذلك جلياً عندما اعتقل على أيدي أبناء جلدته في مدينة غزة بعد أحداث الانقسام عام 2007، وكانت صدمة ذلك الحدث ما تزال تترسب في نفسه، وتشتت أفكاره، ليستقر بعدها في قاهرة المعز لدين الله، التي أحبها، فليس يجاري حبه لفلسطين سوى حبه لمصر العروبة وأهلها الكرماء، البلد الذي أكرمت وفادته، حتى تكون في النهاية الأرض التي يتوارى تحت أطيافها.

وأثناء زيارتي الأخيرة للقاهرة قبل أسبوعين كان هناك ترتيب لزيارة الأخ محمد القدوة (أبو مجدي) بصحبة الصديق العزيز السفير/ أشرف عقل - سفير مصر المحروسة في فلسطين الأسبق، لكن مرضه حال دون ذلك، وكان موقف السفير عقل لا مثيل له في حبه وتقديره للقدوة، بل لكل الفلسطينيين الذين يلوذون إليه إذا حزبهم أمر من الأمور، وأعتقد أن هذا الحب والوفاء من النوع الذي يتملك القلائل من الناس في هذا الزمان، بما تنطوي عليه نفسه من وطنية صادقة، وحب عميق لشعبه وأمته، ورغبة دائمة في عمل الخير قولاً وعملاً، ومبادرات لا تهدأ سعياً إلى السبق في أداء واجبه، سواء بالفكر الناضج والتوجيه السليم، أسأل الله للسفير عقل دوام الصحة وطول العمر ورغد العيش.

وفي الختام، عزاؤنا أن الإنسان يموت على حسن الختام بعدما يؤدي الواجب الوطني والديني، فلا ريب أن الأخ العزيز المرحوم/ محمد القدوة (أبو مجدي) خالد في أفئدة أهله ومحبّيه، خالد في ذاكرة الوطن بأعماله وأخلاقه الكريمة، ولا يستطيع المرء، مهما أطنب في الكلام عنه، أن يحيط بالجانب الإنساني من شمائله، فهو إنسان يحب الناس حباً جماً، وكان دينه كدين الشاعر الفيلسوف الأندلسي الصوفي ابن عربي الذي يقول:

أدينُ بدينِ الحب أنّى توجهت ركائبُه، فالحبُ ديني وإيماني

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد