قلنا في المقالات السابقة إن إيران تبدو في وضع تفاوضي يرجح لمصلحتها نسبياً، وقلنا إن التهديدات بشن حرب عليها تظل مستبعدة، طالما أن حرباً كهذه ليس بمقدورها إحداث تدمير كلي أو شامل لبرنامجها النووي، وطالما أن مثل هذه الحرب محفوفة بمخاطر جمّة.
لكن هذه الحقائق ليست نهائية، وليست مطلقة، وهي لا تعطي إيران أرجحية مطلقة.
ومن يعتقد أن إيران ستستخدم أرجحيتها النسبية من أجل «فرض» شروطها على الغرب فهو واهم، لأن الغرب لديه ما يكفي من «الوقائع» لتحويل العقوبات الهائلة على إيران إلى أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، إن لم يكن على المستوى المباشر والمتوسط، فأقله على المدى البعيد بكل تأكيد.
مشكلة الغرب مع إيران شائكة للغاية من عدة جوانب، فالغرب لا يرى أن الحرب ستحل أي مشكلة على الإطلاق، لأن إيران لديها من أوراق القوة ما يحول مغامرة الحرب ضدها إلى عملية استنزاف ليس بوسعه (أي الغرب) الدخول إليها في ظل الأزمات العالمية القائمة في أكثر من بؤرة توتر دولي خطرة، وفي ظل كل التوقعات من أن هذا الغرب ما زال بعيدا عن «التعافي» الاقتصادي، وفي ظل الأزمات الشاملة التي يمر بها العالم الرأسمالي جراء الجائحة الصحية، وجراء أخطار التلوث البيئي، وبوادر مقلقة حول أزمات قادمة لا محالة، إن لم نقل إنها أصبحت على الأبواب، ومنها ما له طابع مالي، ومنها ما يتعلق بالطاقة، وأزمات أخرى ليست على البال والخاطر.
حسابات الغرب الأكثر حساسية من ذلك كله هي حسابات استراتيجية أبعد من الأزمات «القطاعية» وأكثر خطرا عليه منها.
يرى الغرب أن الحرب على إيران ستسرع من «تربع» الصين على العرش الاقتصادي، خصوصاً أن العلاقات الصينية الروسية تبدو في هذه الأيام على درجات عليا من التنسيق بين البلدين، وهو ما سيكبح الاستفراد بروسيا وحدها، أو الصين وحدها، ما سيعني بالضرورة أن الغرب لا يغامر بهذه المسألة [عالية الأهمية والخطورة]، وإنما يغامر أيضاً بالعودة «في الإطار الكوني الشامل» إلى حرب باردة جديدة، هي في الواقع لم تعد باردة تماماً، وقد تتحول إلى حرب بدرجة حرارة أعلى من الحرب التي شهدناها بُعيد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن تشكل النظام العالمي آنذاك «وتعايش» على قاعدة من الإقرار بالقطبين والكتلتين والحلفين والمعسكرين.
في الظروف الراهنة لن يفضي «الصراع» بين الأطراف المكونة لأقطاب العالم الجديد ـ أو في الظروف الدولية الجديدة ـ إلى تبلور معسكرين، بل إلى معسكرات، وليس إلى حلفين، بل أحلاف من كل الأنواع والأصناف، وبتشابكات اقتصادية جديدة ليست نسخة من الفرز الذي كان قائماً على مدى سني الحرب الباردة.
من هذه الزاوية بالذات «تتفلت» روسيا «وتهوّن» على الغرب بعد أن حسمت مسألة «القرم» باتجاه أوكرانيا، وهي (أي روسيا) ربما ترى في هذه المرحلة الفرصة المواتية لوضع حد نهائي لكل طموحات الغرب بالتوسع شرقاً.
وكذلك الأمر تبدو الصين وكأنها تريد حسم الصراع على مستقبل تايوان «قبل فوات الأوان»، وقبل أن يتمكن الغرب من التقاط أنفاسه وترتيب أوراقه.
أي أن مسألة الحرب على إيران والقرار بشأنها أبعد بكثير من الحسابات الإسرائيلية الصغيرة، وأكبر بما لا يقاس من «الأوهام الخليجية» حول «وقف» إيران عند «حدها».
هذه واحدة من أقوى الأوراق الإيرانية في معادلة الصراع الدولية، وهي مسألة تعيها إيران وتعرفها حق المعرفة.
لهذا ليست المسألة أبداً وبالمطلق مسألة «قوة» إيران العسكرية أو خوف الغرب من هذه القوة.
وليست قوة إيران في تماسك اقتصادها ومجتمعها كما تحاول أن توحي، بل إن مكمن هذه القوة هو بالضبط في التبعات الاستراتيجية لحرب ضدها.
كان الرئيس أوباما هو أول رئيس للولايات المتحدة لا يخضع للحسابات الآنية، والصغيرة، ولا لضغط اللوبيات الخاصة، بما فيها اللوبي الإسرائيلي بقدر ما تعلق الأمر بالمعادلة الشاملة للصراع.
وهو أول رئيس للولايات المتحدة الذي أدرك مبكرا جداً أن دور ومكانة الولايات المتحدة باتا في موضع التهديد الحقيقي، وأن استدارة كبيرة باتت أكثر من ضرورية لكي لا يتحول هذا التهديد إلى كارثة سياسية استراتيجية على الولايات المتحدة، أو لتقليل الخسائر الناجمة عنه إلى أقصى الحدود الممكنة.
إضافة إلى كل ذلك، وبقدر ما يتعلق الأمر بالتوازنات «المحلية» للصراع مع إيران، وهي توازنات إقليمية، لأن مدلول المحلية هنا ليس بالمعنى الضيق للكلمة وإنما بالمعنى الواسع لها، فإن إيران تمتلك نظريا الكثير من الأوراق في إطار اللعبة الإقليمية.
أهم هذه الأوراق ـ كما أرى ـ قدرتها على إلحاق أضرار كبيرة بإمدادات النفط العالمية، وبإلحاق أضرار أخطر وأكبر بمصادر إنتاج هذا النفط على طول السواحل الخليجية.
كما أن لدى إيران ما يكفي من الأسلحة لتهديد المدن التي شيدتها الحواضر الصحراوية العربية (والتعبير للزميل حسن خضر)، وهو ما يوازي «إنجازاتها» المبهرة في المجال العقاري تحديداً، وهو ما يهدد بالتالي المركز الخليجي الذي تحول إلى مركز مهم على كل حال.
إضافة إلى كل ذلك تمتلك إيران من «الأذرع» العسكرية ما يجعل الحرب ضدها في عموم الإقليم (سورية ولبنان والعراق واليمن) شأناً شائكاً إلى أبعد الحدود.
وهناك من يضيف إلى ذلك كله البعد الاجتماعي الطائفي الذي من شأنه ـ إذا ما تم استثماره إيرانياً، أو إذا ما تم النجاح باستثماره إيرانياً ـ أن يهدد الأوضاع الداخلية لبعض بلدان الخليج، وأن يؤدي إلى دمار كبير في هذه البلدان.
ومع كل ذلك فإن إيران تحتاج إلى الاتفاق حاجة ملحة، لأن البقاء في دائرة الصراع المحتدم مع الغرب لن يحمي نظامها السياسي إلى الأبد، ومسألة الحصار والعقوبات ستدمر كل إمكانياتها للتنمية، أو ستبقي هذه التنمية حبيسة لهذا الصراع.
ولهذا كله فلا مناص من الاتفاق الجديد، إن لم يكن اليوم فغداً، وهو الاتفاق الذي ترشحه كل المعطيات التي حاولنا توضيحها، ولا أعرف إلى أي مدى نجحت المحاولة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية