انشغلت بالكتابة الصحافية (عمود اسبوعي) منذ حوالي ثماني سنوات، ولولا الانقلاب الذي قامت به حركة حماس في قطاع غزة لما شمرت عن ساعدي للكتابة ولما تابعت بهذه المثابرة.
كان الانقلاب ـ بالنسبة لي ـ لحظة فارقة ومفزعة، لقد فهمت ان الحركة الوطنية الفلسطينية دخلت في صراع مبكر على السلطة السياسية، وفهمت أن هذا الصراع ـ ان كان له اية مشروعية قبل الاستقلال الوطني الناجز ـ قد تحول من الاطار الديمقراطي ـ الديمقراطي بالمقاييس والأعراف والتقاليد الفلسطينية ـ من صراع على سلطة قيادة المشروع الوطني، الى صراع على البرنامج نفسه وليس بهدف تطويره أو تعديه أو مراجعته وتصويبه، وانما بهدف الاجهاز عليه، واحلال مشروع اجتماعي سياسي ثقافي، منهاجياً وادواتياً يقوم، أو بالاحرى لا يمكن ان يقوم الا على انقاضه.
اذن في تلك اللحظة الفارقة والمفزعة بدأت بالكتابة في صحيفة «الأيام» وها أنا اتابع الكتابة فيها دون توقف يذكر معتقدا ان كتابة العمود الاسبوعي ربما يساهم في مواجهة هذا الخطر المحدق. لم يصدق معظم الناس ان تلك المرحلة على الرغم من كونها صادمة يمكن ان تستمر طوال هذه السنوات، ولم يصدق البعض من هؤلاء البعض اننا قد دخلنا او أُدخلنا إلى مرحلة استنزاف الذات الوطنية حتى كدنا نفقد الوعي لشدة النزيف، ولم تكن المراهنة على ايجاد حل «ما» الا جزءاً من حالة اعتلال الوعي الوطني نفسه ذلك لأنها (المراهنة) كانت تنطلق في فهم هذا المستجد الصادم من فكرة مغرقة في سذاجتها والتي مفادها ان الانقسام هو مجرد حالة صراع على السلطة والنفوذ.
اعتقد ذلك البعض ـ وهم في جلهم اناس محسوبون على الوطنية الفلسطينية بل ولهم باع طويل في مسيرة الكفاح الوطني نفسه ... اعتقدوا ان هذا العنوان العريض ـ الصراع على السلطة ـ هو جوهر الأمر ومضمونه الرئيسي، وان انهاء الانقسام بالتالي ممكن بالتقاسم. لم يفهموا بعد، وبعد كل هذه السنين ان المسألة أبعد وأعمق من مجرد عنوان عام وعريض.
لم يفهموا ان هذا الصراع لم يعد كذلك الا في شقه الوصفي البسيط، وان جوهر الصراع ومضمونه بل وادواته ايضاً باتت شيئا مختلفا وبصورة جذرية. انه ببساطة ودون رتوش صراع البديل الذي يستحيل تحقيق نتائج حاسمة بشأنه الا عبر تحوله الى صراع إحلالي من حيث الجوهر.
والآن ما معنى أن يتحول هذا الصراع إلى هذا النوع الإحلالي؟؟
المعنى الأهم لهذا النوع من الصراع هو انه لا يحتمل اية درجة من التقاسم الذي يتحول إلى نوع من أنواع الشراكة إلاّ في لحظات (إجبارية) معينة ما تلبث ان تطير في الهواء ـ الطلق او الفاسد ـ «لا فرق» لكي يعاود هذا الصراع طبيعته الاحلالية.
أقصد ان انهاء الانقسام كهدف بات متعذرا في ظل وجود سياسة احلالية من هذا النوع وعلى هذا المستوى.
وحتى لو تمت «المصالحة» فإنها وكما أثبتت التجربة، إضافة إلى الاثباتات التي ينطوي عليها خطاب الانقسام نفسه ـ فإنها لا تتم تحت «ضغط» أو عوامل طارئة، سواء كانت هذه العوامل حالة احتياج خاص او محطات لا يمكن ادارة الظهر لها، وهي بالتالي لا تتم أبداً على قاعدة البحث عن حل وإنما ـ وهذا مهم للغاية كما ارى ـ للتحايل على الحل.
دعونا نعود الى المحطات الرئيسية لما يسمى بمسيرة المصالحة. تعالوا لنعيد التدقيق في جوهر ما كان يحدث في كل محطة وفي كل مرحلة. الم يكن البحث عن وسائل ما للتحايل على ما كان يتم التوافق عليه هو الأمر الاكثر وضوحا بل وسفوراً في هذا الشأن؟؟
فمرة كنا امام ملاحظات، ومرة امام تعديلات، ومرات امام استدراكات وتصويبات، ثم مراجعات وتقييمات، حتى تحول الأمر برمته الى حالة من التندر المحزن.
البحث عن الذرائع والحجج كان يترافق دائما مع مفاجآت صادمة في لغة الخطاب الاعلامي.
مرة يكون الخطاب مرنا وتوافقيا ثم يشتط الخطاب غضبا وينتقل بصورة دراماتيكية الى خطاب تخويني ثم تكفيري.
يبدأ المسلسل بالتشكيك ويمر في مرحلة اعدادية صغيرة وسريعة ليصل الى اعلى درجات التصعيد.
اذا اعطى الخطاب المفعول المطلوب كان به أما إذا عجز الخطاب فيتم على الفور الانتقال إلى السلوك والممارسة.
ببساطة بالنسبة لحركة حماس فإن المنظمة والسلطة الوطنية ليستا الا «مشاريع خيانة» في حين ان اقامة سلطة مقايضة الامن الاسرائيلي بكرة الخبز هو مشروع مقاومة.
حروب تعيد القطاع الى مراحل ما قبل الرأسمالية هي مقاومة أما ما دون ذلك فهو رضوخ واستسلام.
ببساطة نحن لم نكن يوماً نعيش في مرحلة البحث عن مصالحة وإنما ما زلنا نعيش في المرحلة الأولى والابتدائية من تدمير المصالحة وتكريس الانقسام للوصول الى الانفصال. وعندما سنكتشف ذلك كلنا ودفعة واحدة سنعرف ان المشروع القائم والمشروع القادم هو إعلان حرب على المشروع الوطني حتى إسقاطه وبذلك سيتحول المشروع الوحيد القابل «للحياة» هو مشروع تأجيل الصراع على الضفة و القدس مقابل احتفاظ القطاع بعد «التقاط انفاس» لمدة قد لا تقل عن 10 ـ 20 سنة وهذا هو بالضبط المعنى الحقيقي لمفهوم الهدنة.
اذاً الهدنة تعني إلغاء او بيع او مقايضة «المقاومة» بالخبز و(إعادة الإعمار في ظل سيطرة أمنية مطلقة لحماس) ويتحول مشروع «المقاومة» في الضفة والقدس إلى صراع ضد المنظمة والسلطة بالأساس.
لماذا تريد اسرائيل غير ذلك وأي برنامج يمكن أن يحقق لها أهدافها القاضية اصلاً باخراج القطاع من دائرة الصراع، وتحويل كل «جهودها» لالتهام الضفة والقدس في ظل سلطة بلا سلطة تقوضها اسرائيل وتنهشها حماس؟؟
اذن نحن لسنا امام اية مصالحة من أي نوع، ولسنا امام تقاسم لإنهاء الانقسام، لان المرحلة تجاوزت التقاسم وتحولت إلى مرحلة جديدة عنوانها وفحواها اعادة تقسيم الاولويات الى اولويات جديدة وعنوانها هو الانفصال.
الأولوية الأولى والمطلقة الحفاظ على حكم حماس من القطاع بالتفاهم على الهدنة مقابل تجميد الصراع مع اسرائيل وتأجيله الى فترة تكون اسرائيل من خلالها قادرة على الانتهاء الكامل والنهائي من تدمير كل ما يمكن تدميره من البنية الوطنية تمهيداً لتحويل المشروع الوطني من مشروع للتحرر والاستقلال الوطني الى مشروع يستجيب أساساً للاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية لسكان الضفة والقدس دون سلطة سياسية جامعة او ممثلة او قادرة على الحياة.
وما الصعوبة التي ستجدها إسرائيل في حال تحقق لها كل ذلك في ايجاد صيغة جديدة من «الكيانية» الفلسطينية المجردة من الحقوق الوطنية والزاخرة بأنواع الإغراق الاقتصادي تحت مسميات مختلفة.
الخطر المحدق اليوم هو إنهاء التمثيل وفصل القطاع و»تجميد» الصراع وإخراجه من إطاره الوطني الى إطاره المعيشي ومن دائرة الحقوق الوطنية الى دائرة المصالح الفئوية والخاصة.
المراهنة على نجاح خطة الانفصال هي احد اكبر الأوهام لكن المشكلة ليست في إسقاط هذا المشروع وإنما في الثمن الذي سندفعه قبل إسقاطه.
إنها مجرد لحظة اعتلال في الوعي الوطني ولكنها لحظة باهظة الثمن.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية