بصرف النظر عن الاعتراضات، وعن الرفض الذي أبدته القوى المصنفة في العراق بكونها موالية لإيران على النتائج الأولية للانتخابات العراقية، وما يمكن ان ينطوي على ذلك من حالة فوضى سياسية.. وربما أبعد وأخطر من ذلك أيضاً، فان هذه النتائج قد باتت بحكم المؤكد وشكلت الى حد بعيد ضربة موجعة للتيار الإيراني في العراق.
لن ينفع كثيراً الكلام عن "فبركة" هذه الانتخابات مسبقاً، ولن يجدي نفعاً كل التشكيك حول تزويرها.
"التجاوزات" التي تم الحديث الجاد عنها سواء على لسان المكون "الكردي" أو "السني" وكذلك على مستوى الأغلبية الكبيرة من المكون "الشيعي" نفسه، وكذلك على مستوى المراقبين، بما في ذلك مراقبو الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية وعشرات المراقبين من مختلف منظمات الرقابة الدولية والإقليمية.. التجاوزات التي تم الحديث عنها لم تكف لتعطيل السير السلس للعملية الانتخابية، ولا التأثير على النتائج، إضافة إلى الحدود الضيقة التي تم الحديث عنها حول خروقات هنا وأخرى هناك.
من هذه الزاوية، وفي ضوء نتائج الانتخابات العراقية، والتي لم يتم الحديث بحرف واحد عنها قبل مضي اكثر من أربع وعشرين ساعة على إغلاق الصناديق، فإن بالإمكان الاستناد إليها في قراءة الواقع السياسي في العراق، واتجاهات تطور هذا الواقع.
المكونات السياسية، وكذلك المراقبون المحليون والدوليون، وكذلك من الجامعة العربية وغيرها من المنظمات الإقليمية التي تعنى بشؤون الانتخابات في المنطقة.. فعلت خيراً، وكان لمواقفها بالمبادرة السريعة والشهادة بحسن سير الانتخابات العراقية اكبر الأثر على لجم الاتجاهات التي رفعت صوتها عالياً ضد النتائج، وهددت ضمنياً بالتصدي لها، وبإدخال البلاد في أتون أزمة سياسية في غاية الخطورة.
المهم ان التيار "الشيعي" الذي يرى في إيران "خطراً" على وحدة العراق، وعلى سيادته، وعلى الحفاظ على تعاون كل مكوناته السياسية والاجتماعية والعرقية والدينية، وعلى طوائفه وثقافته الوطنية هو التيار الذي تصدر هذه الانتخابات.
بهذا المعنى فقد تلقى تيار الموالاة لإيران ضربة موجعة فعلاً، ولكنه مع ذلك ما زال قوياً بما يكفي لزعزعة الاستقرار في قادم الأيام وفي لحظات مفصلية قادمة.
هنا القياس هو القياس النسبي.
لو رجعنا إلى الواقع العراقي بُعيد سقوط نظام البعث في العراق، وبعد إعدام الرئيس صدام حسين فقد تمخض الأمر عن حكم عسكري أميركي للعراق، وعن حكم سياسي لإيران فيها.
وقد قيل في حينه بأن الولايات المتحدة كانت تحتل العراق، في حين أن إيران كانت تحكم وتتحكم به من كل الزوايا.
صحيح انه جرت مياه كثيرة بعد ذلك، وصحيح ان التغيرات لم تبدأ مع الشهور والسنين القليلة الماضية، وصحيح ان ربيعاً عراقياً على أعلى درجات الأهمية والنقاء السياسي قد مهد للنتائج التي ترتبت على الانتخابات الأخيرة، إلا أن الشعب العراقي من خلال هذه الانتخابات قد وضع واقعياً حداً فاصلاً للسطوة الإيرانية على العراق.
الدرس العراقي هنا أبلغ من كل الدروس: لماذا؟:
أولاً: لأن إيران أنهكت العراق سياسياً واقتصادياً على مدار اكثر من عقد ونصف من الحكم والتحكم.
ثانياً: إذا صحت التقديرات حول الأرقام الفلكية لهدر المال العام، والفساد، وسرقة أموال الدولة، والسطو على مقدرات الشعب العراقي - وأغلب الظن ان هذه الأرقام صحيحة وحقيقية- فإن الشعب العراقي يكون قد بدأ مسار معاقبة هذه القوى التي تستخدم الطائفية وتتغطى بها لنهب العراق، بل وتجويعه أيضاً.
ثالثاً: هذه الانتخابات ربما تكون فاتحة ل فتح ملفات هذا الفساد ولإحداث خلخلة جديدة وكبيرة في هذه المنظومة الجهنمية لتحالف الفساد مع الطائفية البغيضة في العراق.
رابعاً: اغلب الظن أيضاً، ان الأمر لن يتوقف عند حدود كشف العلاقة العضوية بين المنظومة الفاسدة والطائفية، وإنما سيصل الأمر الى التحقيق في ملفات سقوط الموصل، ودخول "داعش" على خط تدمير البلاد والعباد في العراق.
خامساً: الانتخابات الأخيرة في العراق ستكون درساً للقوى الطائفية في منطقة الإقليم، ليس على مستوى الطائفة الشيعية فقط، وإنما للطوائف كلها ومنظوماتها السياسية، بما في ذلك التحالفات "الملوثة" بين الطوائف والنهب والفساد في كل منطقة الإقليم.
سادساً: الانتخابات العراقية ستعيد النقاش في أهمية وضرورة إنهاء منظومات التقاسم الطوائفي وعلاقاتها باحتباس الاستقرار، ومنظومات التعطيل واحتجاز التنمية الوطنية، إضافة الى أهمية إعلاء شأن المحاسبية في النظام السياسي العربي.
سابعاً: ربما تفتح هذه الانتخابات ملفات شرعية النظام السياسي العربي الذي يقيم نظامه السياسي على أساس التقاسم المسبق للسلطة السياسية.
بكل هذه المعاني فإن الدرس العراقي مهم للغاية لمستقبل لبنان ومستقبل ليبيا واليمن، وسيلقي بظلاله الكبيرة على كل القوى والأحزاب التي تتغطى بالدين أو تستخدمه لشرعنة النظام السياسي.
هذه بداية مهمة لوعي الشارع العربي عن أخطار الطائفية على مستقبل وجود ومصالح الشعوب العربية، وهي بداية مهمة للغاية أن البعد الوطني النابع من المصالح الوطنية الجامعة هو البعد الوحيد الذي يحمي وحدة المجتمعات ويؤدي إلى تماسك النسيج الاجتماعي، بل والى حماية الدولة الوطنية بالمعنى الحديث للكلمة، وهو الضمانة في نهاية الأمر لأي شرعية حقيقية للنظام السياسي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية