شاءت الأقدار، أن تكون ولادتي في يافا، على هوامش سقوط تلك المدينة العظيمة. فصيل متطرف صهيوني اسمه «إتسل»، بقيادة شاب اسمه مناحيم بيغن، كان يمتلك مدافع هاوزر، قرر أن ي فتح نيران مدفعيته على يافا.
كان صوت مدافع الهاوزر مدوياً وغير مألوف لدى سكان يافا، أحدث هذا القصف رعباً شديداً، فما كان من النساء الحوامل في شهرهن التاسع، مناص من الولادة المبكرة.
ولدت بدافع الخوف، وسرعان ما هجرت، ولدت مع أطفال كثر في يافا، بفعل القصف والخوف!
تجمع معظم أهالي يافا، متدافعين مذعورين في الميناء، وهناك كانت سفن شتى، تأتي من مصر ولبنان وسورية، لنقل مسافرين.
سفن تجارية، وجدت في النكبة ، سوقاً رائجة للنقل، كان التدافع على أشده، من أناس تركوا وراءهم كل شيء، ما عدا ما خفّ وزنه وغلا ثمنه... الأولاد ومنهم حديثو الولادة والرضّع، شكّلوا عبئاً، وبالتالي تم جمعهم ومن ثم رفعهم لبواخر الشحن...
حدثتني والدتي عن ذلك اليوم المنحوس، قائلة: خفت عليك من الضياع، فوضعت داخل ملابس الولادة «الكوفليّة» كفا صغيرة من الذهب، وحدث ما توقعته، حدث هرج ومرج، وقاموا بتجميع الأطفال الرضع في صندوق مفتوح، وبعد الصعود للباخرة، أحضروا الصندوق، وهناك تعرف المهاجرين إلى أولادهم.
كان من الممكن أن تختلط الأمور وتضيع... «يا وجه النحس»، كانت هذه التسمية للمداعبة، لكنها كانت أحياناً نافذة، لاستعادة هذا المشهد البشع، الرحيل نحو المجهول... لم يكن يعرف المهاجرون، وجهة السفينة، قد تكون نحو غزة ، وقد تكون وجهتها نحو بيروت...
شاءت الأقدار، أن تكون وجهة السفينة التي هاجرت أسرتي عليها، بيروت... وصلت العائلة إلى بيروت، وهناك استقرت زهاء خمسة أعوام متتالية، وبعدها تم التعاقد مع والدي، خرّيج مدرسة الفرير في يافا، ليكون موظفاً في « الأونروا »، التي قامت بتكليفه رئاسة قسم التسجيل في الأونروا، في سورية.
انتقلت العائلة مجدداً إلى سورية، وسكنت في التل، قرب دمشق، ثم في المهاجرين، وعند نشوء مخيم اليرموك ، آثر والدي، الانتقال إلى مخيم اليرموك.
كان المخيم جزءاً من الغوطة، وكان منزلنا وسط بساتين غنّاء، حيث الخضرة والماء، لكن لا كهرباء ولا بنية تحتية ولا شيء يذكر سوى العناء.
نشأ المخيم كالفطر، نشأ سريعاً وبفترات زمنية قصيرة، وغدا مركزاً مهماً للغاية، لنشوء فصائل مسلحة، واحتضان أخرى، جاءت من الخارج.
كانت التيارات الرئيسة، سياسياً، هي التيار الوطني، وتتزعمه حركة فتح، والتيار القومي وتتزعمه حركة القوميين العرب، ومن ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لم يكن للتيارات الأخرى دور في الحياة النهضوية الفلسطينية، وأبرزها حركة الإخوان المسلمين.
نشأ المخيم من العدم، وكان اللجوء والعوز والفقر يشكل تحدياً في وجه اللاجئين، لكن الاستجابة، كانت قوية ومهمة.
برز قادة من هؤلاء اللاجئين، ومفكرون، واقتصاديون وغيرهم.
ليس صدفة، أن تتضافر جهود شتى، لها مرام شتى، نحو نقطة واحدة، الآن، وهي إلغاء مخيم اليرموك، وشطبه عن الوجود، كما سبق أن حدث في لبنان، مع تل الزعتر، وضبية وجسر الباشا، والبارد، وصبرا وشاتيلا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد