يُعد فؤاد حداد من أبرز شعراء العامية في القرن العشرين، أُطلق عليه فنان الشعب لارتباط شعره بقضايا الشعب والأمة، عشق مصر رغم أصوله الشامية، وأحب الإسلام رغم ديانته المسيحية، وانتمى للفقراء رغم طبقته الغنية، وآمن بالوحدة العربية رغم تغييبه في سجون القومية الناصرية، وأنشد لفلسطين- قضية الأمة المركزية – عطشاً للتحرير، فقال: "ولا في قلبي ولا عينيَّ إلاّ فلسطين.. وأنا العطشان ماليش مية إلاَّ فلسطين"، وغنّى للمقاومة شوقاً للحرية، فقال: " ازرع كل الأرض مقاومة.. ترمي في كل الأرض جذور.. إنْ كان ظلمة تمد النور.. وإنْ كان سجن تهد السور". ونادى بعد النكسة بعبور بحر الهزيمة إلى بر النصر، فقال: "الأرض بتتكلم عربي وقول الله... إنَّ الفجر لمن صلاّه.. ما تطولش معاك الآه"، وعبّر فيها عن روح المقاومة وإرادة النصر، فقال: "الأرض بتتكلم عربي ولا ترتاح.. واصل كالسيل المُجتاح.. فتحك يا عبد الفتاح".
قصيدة الشاعر الثائر فؤاد حداد (الأرض بتتكلم عربي) بعد النكسة عام 1967م، تُعبّر عن روحٍ ثورية ترفض واقع الهزيمة كأمر جبري لا خلاص منه، وقدر حتمي لا محيد عنه، وتُعبّر عن إرادة حياة ونصر تأبى التعايش مع حالة الانكسار كحالة دائمة لا خروج منها، ووضع أبدي لا نجاة منه، ولذلك اعتبر الأرض كائناً حياً يتكلم عربي بلهجة المقاومة وصوت الثورة، فلا يوجد في قاموس العروبة عنده غير المقاومة والثورة، فإذا كانت الأرض بتتكلم عربي، فهي لا تلد من رحمها إلاّ الثوار الأحرار، ولا تحتضن في بطنها إلاّ الشهداء الأبرار، فعبّر الشاعر بعاطفته القومية وإحساسه الوطني عن هوية كل أرض يأبى شعبها القبول بالاستعمار والرضى والاستحمار، فتثور فيهم روح المقاومة والبطولة، وتسكنهم إرادة النصر والرجولة.
وهذه لغة كل أرض تُغرس فيها جذور الثورة، فتنبت أشجار المقاومة، وتخصب ثمار الحرية. ولغة كل أرض حقيقة أو مجازاً، بما فيها الباخرة الإيرانية الأولى وأخواتها المُحمّلة بالنفط الإيراني إلى لبنان وشعبه، فبمجرد إعلان السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله أنها أرض لبنانية، فقد انضمت إلى أرض المقاومة بمعادلتها المفروضة على العدو الصهيوأمريكي وجوهرها فرض توازن الردع والرعب عليه.
معادلة المقاومة المفروضة على العدو الصهيوأمريكي هي التي ردعت أمريكا و(إسرائيل) عن ضرب الباخرة الإيرانية وأخواتها في عرض البحر، وأتاحت لها ولأخواتها الوصول إلى محطتها الأخيرة، ومن ثم دخول النفط الإيراني إلى لبنان، ليُساهم في كسر جدار في حائط الحصار المضروب على لبنان مستهدفاً المقاومة، بقرار أمريكي إسرائيلي، ومشاركة عربان أمريكا في الإقليم، ورضى أو صمت طالبي الحماية الفرنسية في لبنان. وهذا التمرد على عبودية الحصار الطوعية من المقاومة اللبنانية لم يكن ليتم لولا إدراك المقاومة بأنَّ ضريبة الحرية مهما عظٌمت ستكون بلا شك أقل من ضريبة العبودية، وشتان بين ضريبة تنتزع الحياة بعزةٍ وكرامة، وضريبة تجلب حياة الذلة والمهانة. ورحم الله سيد قطب القائل عن ضريبة الذل "هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة، يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون.".
والتاريخ خير شاهد على هذه الحقيقة، فالشعوب والأمم التي ضنّت بأرواحها على حريتها عاشت في العبودية دهراً، والتي شحّت بدمائها على كرامتها غرقت في المهانة زمناً، والتي أمسكت أموالها عن عزتها حيت في الذلة ردحاً، والتي بخلت بعرقها على مجدها بقت في الخسة حِقَباً... وما مثال اليهود من بني إسرائيل في القرآن الكريم عنّا ببعيد، عندما ضنوا بأرواحهم، وشحوا بدمائهم، وأمسكوا أموالهم، وبخلوا بعرقهم على حريتهم وكرامتهم وعزتهم ومجدهم، فقالوا لنبيهم " قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ"، فدفعوا ضريبة العبودية ذلةً ومهانةً وتيهاً أربعين سنة في صحراء الأرض والفكر.
ومثال آل سعود منّا قريب، عندما قدموا قرابين الولاء لأمريكا وقرابين التطبيع لـ (إسرائيل)، دفعوا ضريبة العبودية من أنفسهم وأموال أُمتهم: رجولة مفقودة، وإرادة مسلوبة، وأموال منهوبة... طوعاً ورضاً أو كرهاً وقهراً... ومثال جماعة أوسلو منّا حاضر، عندما تخلوا عن بندقية المقاومة، وألقوا سلاح الثورة، فاستبدلوا المقاومة بالمساومة، والثورة بالسلطة، والتحرير بالدولة؛ لم يحصلوا على الدولة ولم يعودوا إلى الثورة، وظلوا أسرى لبريق السلطة وقهر الاحتلال.
أمّا الشعوب والأمم التي جادت بأرواحها، وبذلت دمائها، وأنفقت أموالها، وسخت بعرقها، انتزعت حريتها وكرامتها وعزتها ومجدها، فعاشت في السيادة أبداً، وتربعت على عرش الحضارة دوماً... ولنا في شعوب الجزائر وإيران وفيتنام وكل شعوب الأرض الحرة الأبية أُسوة حسنة، عندما دفعت ضريبة الحرية والكرامة، فسارت على نهج المقاومة والثورة، والتي لا تزال تسير على نفس الدرب، خاصة المقاومة الإسلامية والعربية والوطنية في لبنان وفلسطين وكل محور المقاومة، في كل ميادين النزال والقتال، ومواطن المواجهة والتحدي، في البر والبحر، ومثال عملية انتزاع الحرية في سجن جلبوع والاشتباكات المسلحة في الضفة الغربية، ومثال البواخر الإيرانية المُحّملة بالنفط إلى الشعب اللبناني متحدية الحصار خير شاهد. وخير دليل على أنَّ المقاومة تنتزع حياة الحرية من موت العبودية، لثبت أنَّ المقاومة حياة، وما تركها شعب أو أمة إلاّ ذُلوا وعمهم الله بعذاب المهانة وجحيم العبودية، وبدونها يموت الإنسان تحت الأرض جسداً وفوق الأرض روحاً.
كما وصلت الباخرة الإيرانية وأخواتها إلى هدفها بقوة المقاومة وعنفوان الثورة، حاملة معها الحياة، بعد دفع ضريبة الحرية، ستصل حتماً باخرة المقاومة، وعلى ظهرها كل أحرار الأمة وثوارها إلى هدفها ومحطتها الأخيرة في القدس والمسجد الأقصى، بعد أن يُهزم جمع الاستعمار الغربي الأمريكي، ويوّلي مستوطنو الكيان الصهيوني الدُبر، وعندئذٍ يود الذين استسلموا وطبّعوا، ثم أُشربوا في قلوبهم القابلية للاستعمار، واستقوا في عقولهم الرضى بالاستحمار، وارتووا في نفوسهم العبودية للاحتلال... أنْ تسوْى بهم الأرض ويصبحوا نسياً منسياً.
وحينئذٍ يفرح المؤمنون بالله والمقاومة بنصر الله وشموخ المقاومة، مُرددين قصيدة الشاعر الثائر فؤاد حداد (الأرض بتتكلم عربي)، وبالتحديد قوله: "الأرض بتتكلم عربي سبل وكروم... تجري اللقمة على المحروم.. ما تثبتش حصون الروم"، لتتحقق نبوءة الشاعر بأنَّ حصون الروم الجدد من الأمريكان والصهاينة لن تثبت ولن تصمد أمام عنفوان الثورة وبأس المقاومة، وسُتهدم بمجرد أن يدخل المقاومون عليهم الباب؛ فإذا دخلوه فإنهم بمشيئة الله غالبون.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية