كان يُعتقد على نطاقٍ واسع، أنّ السياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، قد أدّت إلى إضعاف حلف الأطلسي وتوتير العلاقات بين ضفتيه وتحديداً بين أميركا وحلفائها التقليديين في أوروبا الغربية، وعندما وصل جو بايدن إلى البيت الأبيض، ظهر وكأنه يسعى إلى ترميم هذه العلاقة وتعزيزها بين ضفتيه بعدما سادها الاضطراب طوال سنوات ترامب الأربع، إلاّ أنّ هذا الاعتقاد قد تلاشى وزال تماماً بعد سلسلة من السياسات التي أدّت إلى مزيد من الشرخ والتوتّر بين أوروبا وأميركا، خاصة بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان دون التشاور على جدول الانسحاب مع تلك البلاد، ولم تكن هناك شراكة بين ضفتي الأطلسي على جدولة عملية الانسحاب عندما قام بايدن منفرداً بهذه الخطوة ذات الأبعاد الاستراتيجية، بحيث شعرت الدول الأوروبية بأنها مجرّد تابع وليس شريكاً للولايات المتحدة، ولم تتمكن من إخلاء ديبلوماسييها وقواتها والعاملين معها إلاّ من خلال الجدول الأميركي للانسحاب.
لذلك عادت أصوات داخل الاتحاد الأوروبي للمطالبة مجدداً بضرورة تشكيل قوة دفاعية أوروبية للتدخل أثناء الأزمات من خلال قوات التدخل السريع، إلاّ أنّ بايدن سارع إلى اتخاذ خطوة استراتيجية دراماتيكية من خلال قرار تشكيل الشراكة الدفاعية الأمنية بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا بما بات يعرف باتفاقية «أوكوس»، والتي اعتبرت طعنة موجهة إلى دول الاتحاد الأوروبي عموماً وفرنسا على وجه التحديد، والتي سعى بايدن من خلالها إلى تحقيق عدة أهداف، فهذه الاتفاقية الموجهة بطبيعة الحال ضد الصين، تجعل سياسته تجاهها سياسة عامة للحلفاء الغربيين طوعاً أو فرضاً، إذ لم تجد دول الاتحاد الأوروبي مفراً من أن تلتحق بهذه السياسة، ثم أنّ هذه الاتفاقية ومن خلال الجدل حولها وما أثارته من تداعيات، من شأنها أن تحرف الانظار عن الانسحاب الأميركي المذل من أفغانستان في حين أنها قد تقوض نسبياً عناصر الوحدة الهشة لدول الاتحاد الأوروبي، إنّ هذه الاتفاقية ستشكّل بوابة لتكتلات إضافية في المحيط الهادي وربما المحيط الهندي، وهناك حديث عن قمة محتملة في البيت الأبيض بدعوة من الرئيس الأميركي تضم قادة استراليا واليابان والهند ربما لتأسيس تكتل اضافي، في وقت ستقوم فيه نائبة الرئيس كامالا هاريس بجولة إلى كل من سنغافورة وفيتنام، في انتقال واضح بأبعاده الاستراتيجية الحلف الأطلسي إلى المحيط الهادي في مواجهة شاملة مع الصين.
أوروبا تغضب وتلوم وتتحدث عن خيانة، وتكرر محاولاتها إلى عدم الاعتماد على الولايات المتحدة من خلال الدعوة مجدداً إلى مشروعها الخاص بها الذي كان قد طرح في كواليس واجتماعات الاتحاد الأوروبي عام 2007، والقاضي ببناء قوة عسكرية أوروبية للتدخل السريع، إلاّ أن الاتحاد الأوروبي لم يتمكّن من ترجمة هذه الدعوة رغم تكرارها إلى واقع، وذلك نظراً إلى أن مثل هذا القرار يتطلب موافقة 27 دولة، وهذا أمر بالغ الصعوبة إذا ما عرفنا أنّ هناك دولاً في الاتحاد تلتحق بالسياسة البريطانية والأميركية. مع ذلك من المتوقّع أن يناقش وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي خلال اجتماع مجلس الشؤون الخارجية في تشرين الأول القادم، أي قبل الموعد النهائي الذي حدده الاتحاد الأوروبي على استراتيجية دفاعية بحلول آذار 2022، في وقت سيواصل فيه الرئيس الفرنسي ماكرون باتجاه تعزيز القدرات الدفاعية الاستراتيجية لأوروبا بمعزل عن الأخ الأميركي الأكبر، خلال رئاسة فرنسا الدورية للاتحاد الأوروبي في الربع الأول من العام القادم، إلاّ أن احتمالات التوصل إلى رؤية أوروبية موحدة حول هذه القوة الخاصة للتدخل السريع أثناء الأزمات يظل مستبعداً، على ضوء وجود دول في شرق أوروبا تلتحق بالركب الأميركي عادة ستمانع على الأرجح التوصل إلى هذه الرؤية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد