لا تزال أسطورة نفق الحرية تخيم على المشهد العام وتكاد تسيطر على وسائل الإعلام بما في ذلك منصات التواصل الاجتماعي. المعلومات عن تفاصيل عملية الهروب، وما بعدها إلى أن تمت إعادة اعتقال الأبطال الأربعة، لا تزال تتوالى، ولا تزال الحملة الإسرائيلية في البحث عن زملائهم مستمرة، دون أن تتوفر للسلطات الاحتلالية أي معلومة عن مكان اختفائهما. جنين واحدة من المناطق التي تشهد حالة استنفار اسرائيلي وفلسطيني، تتخللها اشتباكات، بالإضافة إلى مدينة الناصرة العربية التي تحلق في أجوائها طائرات الاستطلاع، بشكل متواصل. أسطورة نفق الحرية، استنفرت كل ما لدى إسرائيل من إمكانيات، وهي إمكانيات مكلفة، في محاولة لرد اعتبار الأجهزة الأمنية، لكنها تفشل بعد ان سقطت في المربع الأول. في ظل هذا الاستنفار المصحوب بعمليات قمع وتنكيل بالفلسطينيين، يتأكد الفشل مرة أخرى، حين يختفي المناضلون الأربعة لبضعة أيام فيما يختفي زميلاهم حتى اللحظة.
مقابل ذلك، يستنفر كل الشعب الفلسطيني، بكل فصائله الوطنية وكل مؤسساته الحقوقية والمدنية، ويخرج الشباب على نحو مستمر، لمواجهة القوات الإسرائيلية والمستوطنين على كل المحاور وقد ارتفع منسوب العمليات العسكرية ضد تلك القوات. السجون الإسرائيلية شهدت عمليات قمع وتنكيل، وتنقلات واسعة، ما يعني أنها اقتربت من الخط الأحمر، ما شكل عنوان وحدة ميدانية وشعبية واسعة من قبل الفلسطينيين، واستنفر الحركة الأسيرة العملاقة، التي واجهت عنف السجان، وهددت بإضراب كبير، اضطرت معه السلطات الإسرائيلية للتراجع ووقف إجراءاتها والعودة بالوضع الى ما كان عليه قبل السادس من أيلول. وتحت ضغط الحركة الأسيرة وحركة الشارع الفلسطيني اضطرت سلطات الاحتلال الى السماح للمحامين بمقابلة الأبطال الأربعة، وستضطر للتوقف عن التنكيل بهم.
أبطال العبور تحولوا الى أيقونات وطنية، تفرض ذاتها وأسطورتها على صفحات التاريخ، وتقدم دروساً في التخطيط وقوة الإرادة، وفي اختبار مدى أهمية الوحدة الوطنية، التي ترغم الاحتلال على التراجع.
في مقالة سابقة، اشرنا الى أن وجود حكومة ضعيفة وهشة وقابلة للسقوط لأسباب كثيرة، يشكل فرصة للفلسطينيين لكي يعيدوا صياغة أوضاعهم وعلاقاتهم الداخلية، نحو حوار يؤدي الى إنهاء الانقسام وبناء الشراكة الوطنية، وإعادة الحقوق المسلوبة للشعب بما أنه مصدر السلطات.
لا يبدو بينيت، كما هو قبل ان يكون رئيس الحكومة، ولا أفيغدور ليبرمان او ساعر، هم انفسهم الذين كانوا قبل تشكيل الحكومة، فلقد تراجعت لغة التهديد والعربدة، والعنجهية، وبات كل منهم يبحث عن مخارج للهروب من أسئلة الصحافيين الذين يذكرونهم بما كانوا عليه وما اصبحوا عليه. في البعد الخاص، لم يتراجع أي من المتطرفين عن رؤيته التوسعية والقمعية والاستيطانية، لكن الظروف لا تسمح لهم، بتنفيذ ما تعهدوا بالالتزام به قبل تشكيل الائتلاف. يستطيع بينيت ان يتحدث ليل نهار بأنه لن يقابل الرئيس محمود عباس ، وانه يرفض أي مفاوضات او تسوية ويرفض فكرة قيام الدولة الفلسطينية، لكن عليه ان يواجه عمليات ضغط عربية وأميركية ودولية، تجتمع على ضرورة فتح المسار السياسي على أساس رؤية الدولتين. قد لا يحصل هذا خلال الوقت الذي يحظى به بينيت بموقع رئيس الحكومة، وقد لا يفتح هذا المسار خلال مرحلة لابيد أيضاً على رأس الحكومة، فكلهم متفقون على رفض التسوية على أساس رؤية الدولتين. لكن هذا ليس نهاية المطاف. الأزمة السياسية التي تعصف بنظام الحكم في إسرائيل قائمة ومستمرة مفاعيلها حتى وان كان لديها حكومة، التي ان استقرت لأربع سنوات، فإن الأزمة ستعود بكل قوة تسيطر على المشهد السياسي والحزبي.
خلال لقائه وسائل إعلام عبرية يقول بينيت، ان السلطة فاشلة وانه لن يلتقي مع الرئيس محمود عباس، وان غانتس يعمل لتهدئة طويلة الأمد مع " حماس ". هذا الغر السياسي، لا يدرك ما يقول، ذلك ان أوامر أسياد البيت الأبيض، وخلفهم المجتمع الدولي، كانوا قد طالبوه بوقف الاستفزازات التي تؤدي الى توتير الوضع، وان عليه العمل من اجل تقوية السلطة وتمكين هيبتها، لا يدرك بينيت ان السلطة استعادت هيبتها حين انخرطت مع الشارع والفصائل في النضال لحماية الأسرى ودعم كفاحهم وفي مواجهة العنف الإسرائيلي المتطرف. لقد توحد الخطاب السياسي والفعل الميداني والشعبي الى الحد الذي يرغم الحكومة الإسرائيلية على التراجع ومواجهة الانتقادات المتزايدة من المجتمع والمعارضة.
مؤشرات التراجع الإسرائيلي واضحة في الضفة و القدس ، وإزاء قطاع غزة حيث تضطر حكومة بينيت لاتباع ذرائع مكشوفة ومخالفة لما كانت عليه، مكوناتها سابقاً، وهي مضطرة لمواجهة الاتهامات الموجهة إليها بالتفريط بقدرة الردع.
من القاهرة التي تعود لتؤكد دورها المركزي كقوة كبرى في المنطقة، يعود بينيت حملاً وديعاً، رغم عناده إزاء ملف المفاوضات والتسوية. في خطاب موجّه لمستوطني غلاف غزة، يقول بينيت، "بدأنا بنهج مختلف وهو انه على كل بالون نشن هجوماً وان الأمر لم يكن كذلك من قبل". يضيف بينيت، "ليس بالضرورة اننا في طريقنا الى جولة قتال جديدة مع غزة، الأمر يعتمد على ما إذا كانت (حماس) ستراجع نفسها".
المبادرة، إذاً، في يد الفلسطينيين، وهم سيفرضون على إسرائيل التراجع عن سياساتها الإرهابية والقمعية والانصياع للموقف الفلسطيني الذي يصر على رفع الحصار عن قطاع غزة والسماح بإعادة الإعمار وفق آلية مختلفة عن الآلية السابقة (السيستم)، وهي مضطرة لأن تجد حلاً مرضياً لكيفية وصول المنحة القطرية بما في ذلك الجزء المخصص منها لتغطية رواتب موظفي حركة حماس. الدكتور محمود الزهار عضو المكتب السياسي لـ"حماس" يقول، إن حركته تعيش ظروفاً غير طبيعية، وذلك أمر معروف ومعروفة أسبابه، ولكنه يطمئن سكان القطاع، بأنهم على موعد مع انفراجة كبيرة.
لا ترغب ولا تستطيع إسرائيل شن عدوان آخر قريب على القطاع، ليس بسبب عدم الرغبة او نقص الإمكانيات، ولكن بسبب الظروف والعوامل المحيطة بإسرائيل في هذه المرحلة. يحلم بينيت في ان ينجح غانتس في التوصل الى تهدئة طويلة مع غزة، غير ان طبيعة السياسة الإسرائيلية الإرهابية والعنصرية التوسعية، لا تترك مجالا لذلك، لا في الضفة والقدس ولا مع غزة فضلا عن ان التجربة تفيد على نحو قاطع ان إسرائيل ليست دولة التزام، وان مصداقيتها تصل الى الصفر إذ بإمكانها العودة عن أي إجراءات او قرارات تكون اتخذتها تحت ضغط معين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية