من كان يظن أن فلسطين ستنتصر بالضربة القاضية أو بمعجزة واحدة فهو مخطئ، صحيح أن هنا شعباً يجعل من طين الأرض فولاذاً لمعارك النصر، ويصنع من إرادته تاريخاً لم تكتبه الأساطير بعد، ويعيد إنتاج الأسطورة بواقعيتها ورمزيتها على أرض لا تعرف بطالة المفاجآت والحروب، لكنه في كل النهايات يخط انتصاراته بنور الحكايات الصغيرة التي تراكمها أصابع ناعمة تحفر في الصخر أمجاداً للوارثين ليتكئوا عليها للصعود نحو الشمس.
ما زلت مبهوراً بالمعجزة، كيف تمكّن الأسرى الأبطال من الخروج؟ لا يليق بالمعجزات كل الكلام، بل نقف متسمرين إعجاباً وفرحاً بقدرتهم على إهدائنا الفرح من عتمة الزنزانة، كيف لزنزانة أن تهدينا كل هذا النور وترسم لنا طريق الخلاص الواسع.. كيف تعلمنا الزنزانة هندسة الأوطان وطولها وعرضها وارتفاعها وانخفاضها أيضاً، لأنهم أدخلوا إلى علم المساحة بعداً آخر وهو العمق، وهناك كانت تسكن الإرادة تحت الأرض والتي حين تحركت اهتز معها أقوى جيش في المنطقة.
أعرف ماذا يعني السجن كشاهد عيان، وأعرف مستحيلات الهروب منه، لأن العقل الإسرائيلي تفتق مستخدماً كل وسائل العزل في تلك التجربة، وأحدث الإمكانيات من أبراج حراسة وأسلاك شائكة متعددة واحدة تلو الأخرى، وكلاب حراسة، ومجسات استشعار وكاميرات مراقبة، وعيون لا تنام وعملاء، ولكني أعرف أن الإرادة الفلسطينية أكبر من كل المستحيلات تلك التي ظلت تتلقى كل محاولات الإبادة، ولكنها في كل مرة تفاجئنا من جديد.
هذه واحدة من العمليات التي سيحفظها التاريخ الفلسطيني بصرف النظر عن النهايات، وكثيراً ما سجلت لحظات المجد الفلسطيني نهايات ليست متوقعة أو أقل كثيراً من الأمل، فمن كان يعتقد أن ستة من الأبطال طعنوا إسرائيل في القلب ستتركهم تلك الدولة التي تملك من إمكانيات الأمن ما لا تملكه دول كبرى؛ لأنها دولة عبارة عن مخزن أسلحة تحرسه أقمار صناعية، غرسوا سيف إرادتهم الحاد في مجرى شرايينها فكانت تتحرك كذئب جريح يصارع في كل الاتجاهات، بكل جيشها الذي أعدته لحروب كبرى، هذا الجيش كان يتحدى ستة فلسطينيين، هذا هو ملخص الحكاية.
لقد جسّد أبطال الحكاية كل تاريخ فلسطين في عملية واحدة، وأعادوا للخارطة ألوانها، وللتاريخ وقفته المعتدلة بدل أن يقف على رأسه، وللكفاح الممتد منذ عقود رمزيته، رمزية الفلسطيني الذي يقاتل بإرادته وينتصر مؤقتاً ثم يتراجع ثم يتقدم، وحين يتراجع يظن المحتل أنه سينام على وسادة الحرير ليفاجئه الفلسطيني في غرفة نومه وخزانة سلاحه. سمعت كثيراً من الروايات الخارقة لأبطال فلسطينيين لو كتبتها هنا لاتهمت بالتخريف أو بإسقاط الروايات الأدبية على واقع لا يصدقها، ولكن التاريخ الفلسطيني هو التاريخ الوحيد الذي تعانقت فيه الأسطورة مع الواقع؛ لأن هناك رجالاً، مثل يعقوب القادري ومحمود العارضة وزكريا الزبيدي ومحمد العارضة وأيهم كممجي ومناضل إنفيعات، تمكنوا من تطبيع الأسطورة وتطويعها وتحويلها إلى واقع.
للشعب الذي يقف خلفهم، لشعبهم الذي انتمى لهم في لحظة انعجنت فيها العاطفة مع العقل، والدموع مع البسمة، والفرح والقلق والحزن والتصميم والفخر مع الغضب، وكل التناقضات التي جمعها هذا الشعب في كفّ طفل ولد للتوّ، لهذا الشعب أن يرفع هامته عالياً لأن به رجالاً قبضوا على الشمس ووزعوها على كل البيوت فرحاً وألقاً؛ حين هزوا دولة ألقت بكل عنف التاريخ على عتبات بيوتهم وغرف نومهم.. تلك هي اللحظة.
كانوا أكثر ذكاء من المحتل وتلك ليست أحجية، فالاحتلال دوماً عبر التاريخ كان غبياً؛ حيث فهم كل الدروس متأخراً بعد أن انسحب يلعق دمه وهزيمته، عملوا عكس تفكيره لأنهم خبروه جيداً، فقد اعتقد أنهم ذهبوا منذ اللحظة الأولى للضفة الغربية كما كان يجب أن يحدث، فنشر جيشه هناك وأطلق عيونه وآذانه بانتظار معلومة، ولكنهم ضللوه وظلوا في الداخل، ولولا خطأ بسيط لما تمكن من الوصول لهم، وهنا الفرق بين ذكاء الإرادة ومصادفة القوة.
الأسرى هم محل إجماع كل الفلسطينيين شعباً وفصائل، ودفعات خروجهم لم تتوقف مثل صفقات الأسرى أو بالاتفاق. وللتذكير شهد العقد الأخير لوحده صفقة تبادل تحرر فيها المئات من المؤبدات بفضل حركة « حماس »، وأيضاً أفرج عن مئات المؤبدات بفضل حركة «فتح» والسلطة أثناء مفاوضات كبرى. هناك تكامل يدعو للأمل بأن نراهم يوماً ما يختالون فوق الأرض بكل ثقة، لا أن يسيروا فوقها هاربين ومطاردين كما كان مع غيرهم.
هذا تاريخ طويل لا ينتهي بضربة واحدة، بل يراكم الفلسطيني كما حجارة القلعة بهدوء شديد. وقد أعطى الأسرى الأبطال درساً جديداً للمستعجلين على الانتصار أو الذين يعتقدون أن الأمر سيتم بضربة واحدة. قالوا: إن الحفر بملعقة يمكن أن يزلزل دولة، وإن الإرادة الهادئة هي ما تحقق الانتصارات. أعطونا درساً جديداً في الحرية سيحفظه كل فلسطيني كما سيحفظ صورهم وأسماءهم عن قلب قلب، وليس عن ظهر قلب...!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية