كعادة الأشياء منذ أن بدأت البشرية تمارس فعل السياسة كان الدهاء أولى سماتها لأن التجربة الإنسانية حسمت ألا مكان للطيبين، والذين كانوا دعاة إصلاح على الدوام وفي لحظة ما كانوا مدعاة لنقمة السياسيين أو لسخريتهم في أحيان كثيرة. ومع تعقد المصالح وتقدم الاقتصاد الذي أصبح المحرك الرئيسي للفعل السياسي إلى جانب الأيديولوجيا كان للصفقات أن تجد لها مكانا وخصوصا في دولة كالولايات المتحدة، نشأت كدولة رأسمالية لعب المال دوراً في تكوينها وارثها الثقافي السياسي. وهناك من دلائل التاريخ ما يكفي لتفسير سلوك تلك الدولة سياسيا.
هذه المرة، ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد في أول زيارة له لساكن البيت الأبيض الجديد. وتعرف دوائر القرار في إسرائيل أن هذا الأخير هو وريث أوباما كنائب سابق له ومع أفراد طاقم أحاط نفسه به وأبدوا خلال فترة ولايتهم اهتماماً زائداً بالملف الفلسطيني، ولكن لإسرائيل اهتماماً زائداً بقضية أخرى وهي الملف الإيراني والذي تبدي الإدارة الأميركية رغبة بالعودة للاتفاق معها بعد أن انسحب منه الرئيس السابق، وهو ما يتضارب مع الرغبة والمصلحة الإسرائيلية وتلك كانت مناخات اللقاء بين بايدن وبينيت.
ذهب نفتالي بينيت وهو يعرف اللهفة الأميركية نحو طهران، ويعرف أيضاً أن الإدارة الديمقراطية التي بذلت ما يكفي من الجهد في محاولة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بدت متعبة من كثير من الملفات. فقد وصل بينيت واشنطن وهي متعبة من كل شيء، من « كورونا » وأزمة الاقتصاد، من الخوف من الفشل في الصراع المتصاعد مع الصين، متعبة من أفغانستان التي كانت تقاتل طواحين الهواء لعشرين عاما وتحاول عبثاً بناء دولية مدنية في مجتمع القبيلة. وكان مشهد الخروج المتعب يعيد تذكير الأميركيين بما حدث في سايغون وقد أعطى ما يكفي من عوامل الإرهاق والإحباط لدى الإدارة اتضح من خلال تأخير الاجتماع مع الزائر الجديد لواشنطن بسبب عملية نفذها تنظيم «داعش» في مطار كابول.
واتضح أن كل زيارة رئيس وزراء إسرائيل ليست أولوية أمام مقتل عدد من الجنود الأميركيين، وأن كل إسرائيل وقضاياها لا تحتل الأولوية لدى البيت الأبيض كما تحلم إسرائيل. والأهم أن الإدارة الأميركية أيضاً بدت متعبة من الملف الفلسطيني ومن الصراع وتلك كانت نقطة قوة بينيت رغم ضعف حضوره إلى واشنطن وليس كما فسر محللو إسرائيل باحثين عن مصادر قوة لزعيمهم الشاب إلا أنه يمكن وصف هذه الزيارة بأنها الأقل حضوراً والأقل أهمية، ولم تكن قوتها سوى بأن بنيامين نتنياهو يقف منتظراً على الجدار.
قبل تسلم الرئيس الأسبق باراك أوباما الحكم وبعد فوزه بالانتخابات العام 2008 طلب كعادة الرؤساء الأميركيين فحص الملفات الدولية وآفاق العمل بها، وبما يخص الملف الفلسطيني تلقى توصية تطالبه بالابتعاد عن هذا الملف لأن لا أمل بتحقيق أي تقدم فالملف شائك ومعقد والخلاف كبير لا يمكن إنهاؤه بين الجانبين، وكل الرؤساء الأميركيين كما قال التقرير الذي وضع على مكتبه «الذين وضعوا أيديهم في هذا الملف احترقت أصابعهم» ولا يريدون للرئيس الجديد أن تحترق أصابعه، لكنه سار في هذا الملف وكان بايدن نائبه يشاهد ويتابع ويراقب احتراق أصابع رئيسه الجديد.
أغلب الظن أنه يعرف أن لا أمل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والذي لم يعد منذ زمن صراعاً عربياً فلسطينياً، وهذا يكفي لتهدئة تحتاجها الإدارة الأميركية في تلك المنطقة المشتعلة وبدت تلك توجهاتها منذ البداية فلم يتصل الرئيس بايدن بالرئيس الفلسطيني إلا بعد ثلاثة أشهر، وكانت مكالمة طارئة اثر عدوان إسرائيل على غزة وخشية انتقال الأمر للضفة، وبعدها خوفاً من انهيار السلطة ولفحص إمكانية إدارة الأزمة وليس حلها أرسلت موظفاً صغيراً في الإدارة الأميركية ليرسل تحذير «الغابة التي تحترق» دون حديث في السياسة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي المحاط بمجموعة مستشارين كان قد استبق لقاءه مع بايدن بمقابلة مع جريدة «نيويورك تايمز» كشف فيها خطوطه الحمراء مع الفلسطينيين بجملة لاءات، وكانت تلك رسالة ماكرة لرئيس أميركي متعب أغلب الظن أنه يئس قبل أن يبدأ وبالتالي في ظل لا مبالاته، ربما أن بايدن رأى أن من العبث تضييع وقت في نقاش لا طائل منه وهذا ما كان إذ أزيح الملف الفلسطيني عن الطاولة لصالح الملف الإيراني الذي أرادته إسرائيل وهو الملف الذي تريد الإدارة الأميركية أن تحرز فيه النجاح وتلك أولويتها.
وهنا تمت الصفقة بتلقائية ودون اتفاق وبدهاء شديد. هل هو دهاء اللحظة التاريخية أم الدهاء الإسرائيلي أم الأميركي ولكن كله كان على حساب رأس المال الفلسطيني، بايدن يريد ما يكفي من الوقت ومساحة بلا إزعاج في الموضوع الإيراني، وبينيت يريد ما يكفي من الوقت ومساحة بلا إزعاج في الموضوع الفلسطيني وهذا ما كان، بينيت الذي قفز للقيادة من رأسمال شركته التجارية يعرف أن الدولة الرأسمالية تقيم السياسة على نمط الصفقة.
لكن أخطر ما قاله بينيت وهو في طريقه للقاء بايدن، إنه «لن تكون مفاوضات مع الفلسطينيين لأن القيادة الفلسطينية غير مستقرة» لقد أصبحت تلك مأساة الانقسام والتشتت وانعدام الانتخابات واستمرار الوضع القائم والذي لإسرائيل اليد الطولى بصناعته والحفاظ عليه، أصبحت السكين الحاد الذي تذبح به القضية الفلسطينية والمبرر من كل الأطراف لتآكل الحقوق الوطنية وأبعد من ذلك لتذويب القضية الفلسطينية على نمط قضية الهنود الحمر، ليس لسبب سوى لأن الفلسطينيين يتصرفون في الداخل كهنود حمر وتلك معضلة السياسة الفلسطينية.....!!!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية