حتى قبل أن يحلّ الموعد الذي حددته واشنطن في منتصف أيلول القادم لسحب قواتها من أفغانستان، سقطت العاصمة كابول بيد قوات "طالبان"، في زمن قياسي، أقصر بكثير ممّا قدرت الأوساط الأمنية الأميركية، وبذلك تطوى صفحة سياسية مهمة ليس في تاريخ أفغانستان الحديث، بل في عموم الشرق الأدنى، ذلك أن أفغانستان تعتبر نقطة التقاء الشرق بالغرب، وهي صلة الوصل البرية بين اثنتين من أهم دول العالم اللتين تعتبرهما الولايات المتحدة منافستيها على زعامة العالم، هذا إذا لم تعتبرهما عدوتين أصلاً، ونقصد بهما كلاً من الصين وروسيا.
إنه أمر يعني الكثير أن تسقط أفغانستان مجدداً بيد "طالبان"، الحركة السياسية الإسلامية الأصولية المتزمتة التي كانت تحكم أفغانستان مع "قاعدة" أسامة بن لادن قبل أكثر من عقدين من الزمان، وهما الحركتان اللتان اعتبرتهما الولايات المتحدة عدواً دولياً، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، فهو يعني أولاً أن هناك دولة عادت مجدداً قبلة وحافزاً للتطرف الإسلامي، بما يعيد طموحه مجدداً للوصول للحكم، بعد أن فقده أولاً في أفغانستان، ومن ثم فقده في سورية والعراق، بعد أن ظهرت "داعش" كوريث دولي لـ"القاعدة" كملهم للمتطرفين في العالم، للكفاح من أجل إقامة الإمارة الإسلامية.
قبل كل شيء، انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان الذي فتح الباب واسعاً لعودة "طالبان" لحكم البلاد، قبل أن ترحل القوات الأميركية رسمياً من البلاد، يعني أن واشنطن قد هزمت في نهاية المطاف، وهي لم تحقق هدفها الذي احتلت أفغانستان من أجله، وهو إلحاق الهزيمة بالتطرف، وإسقاط حكم الإمارة الإسلامية، وهذا يذكر بما حدث في فيتنام قبل نحو خمسين سنة، حين هزمت أميركا في فيتنام، وكان انسحابها سبباً مباشراً في سقوط نظام الحكم العميل في بنوم بنه، ومن ثم توحيد فيتنام التي كانت منقسمة بسبب وجود القوات الأميركية في فيتنام الجنوبية.
ولتأكيد الهزيمة الأميركية أعلن قيادي في "طالبان" فور أن صارت قوات الحركة على أبواب كابول، بأن حركته ستعلن من القصر الرئاسي إمارة أفغانستان الإسلامية، وبذلك فإن ورقة التوت التي تذرعت بها واشنطن بحديثها عن ترك البلاد لأصحابها يدافعون عنها، أو بمحاولة أن تظهر الأمر وكأن انتقال السلطة يسير بشكل ودي أو متفق عليه حسب حوارات الدوحة، بالحديث عن حكومة انتقالية، كل ذلك يبدو غير كاف لإخفاء الحقيقة الناصعة المتمثلة بهزيمة الولايات المتحدة في حرب عسكرية استمرت عقدين، ظهرت فيهما القوات الأميركية كقوات احتلال، وظهرت الحكومة في كابول كحكومة عميلة لها، فيما ظهرت "طالبان" كحركة تحرر، ورغم أنها حركة أصولية محافظة، إلا أن الدرس الأساسي يؤكد أن وجود أميركا في أفغانستان طوال 20 عاماً بالتمام والكمال، لم ينقل البلاد إلى عهد الحداثة المدنية، ولم يخرجها من ظلمات الفقر والجهل والتخلف، الذي يعتبر تربة خصبة جداً لنمو التطرف الأصولي.
ورغم أن "طالبان" لم تتلق أي دعم من أي أحد خارجي، ولا حتى من قبيل التضامن معها في حربها ضد الاحتلال الأجنبي، إلا أنها بالنهاية انتصرت وأجبرت القوات الأميركية على الرحيل، وتزامن مع ذلك الرحيل سقوط حكومة كابول، التي كانت عميلة للقوات الأجنبية، هذا رغم أن حكومة الرئيس الهارب أشرف غني حاولت تجنيد ميليشيات شعبية للدفاع عمّا تبقى لديها قبل أيام من مناطق أو ولايات، لكن لا جنود حكومة كابول ولا المواطنون استجابوا لدعوة الحكومة بالقتال ضد "طالبان"، وهذا يؤكد تماماً أن حكومة كابول كانت طوال الوقت معزولة عن الشعب، الذي قد لا يكون بمعظمه راضياً عن حكم "طالبان" الذي جربه من قبل، وعرفه كحكم متشدد، لكن بقيت "طالبان" في نظر الشعب الأفغاني، خلال عهد الاحتلال الأميركي كحركة تحرر تحارب الاحتلال الخارجي.
هذا هو الدرس المهم للغاية، كذلك سقوط أفغانستان بقبضة "طالبان" مجدداً، يؤكد أن كل احتلال خارجي مهزوم لا محالة، طال الزمان أم قصر، بما في ذلك الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين، بعد ذلك نعود لمحاولة قراءة ما سيكون عليه حال منطقة الشرق الأدنى، خاصة وهي منطقة توتر، فما زالت الحرب بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم ناغورني قره باغ ماثلة للأذهان، فيما تحاول إسرائيل أن تشعل الحدود مع إيران، ربما لتعيد أفغانستان مرة أخرى لتصبح بلد قلاقل أو حرب أهلية، أو ملاذاً للتطرف السني، فتدخل في مشاكل مع باكستان أو حتى إيران أيضاً بطريقة ما، لينشغل العالم الإسلامي من داخله، وينشغل عنها، أو ليبقى التوتر في غير مكان من هذا العالم.
بذلك تكون أفغانستان قد أكدت مرتين قدرتها على طرد العدو الخارجي، في المرة الأولى حين نجحت الجماعات الإسلامية في تحريرها من الاحتلال السوفياتي، وجاءت "طالبان" لتعتلي الحكم في آخر تلك الحرب، ثم هذه المرة تقود هي بنفسها حرب تحرير البلاد من الاحتلال الأميركي، وإذا كانت "طالبان" قد نضجت سياسياً بما يكفي فإنها ستكون هذه المرة أكثر حكمة، لتدخل بالبلاد إلى مرحلة الدولة الدستورية، لكن يبدو أنها ستواجه مشاكل من داخلها، مع وجود أمراء الحرب الذين سارعوا بمحاولة الإعلان عن الإمارة الإسلامية، أي العودة بالبلاد للدولة الأصولية التي كانت عليها من قبل.
هذه المرة ليس هنالك شريك اسمه "القاعدة"، ما يعني أن الحكم سيكون محلياً خالصاً، وأن إدارة غير مركزية أو غير عقائدية يمكن أن تخرج بالبلد الفقير والمدمر إلى رحاب مستقبل أفضل، يمكن أن تكون مساراً ناجحاً، أو أفضل الخيارات الصعبة، لذا فإن مراقبة ما سيحدث بعد طي صفحة الاحتلال الأجنبي فيما هو قادم من أيام أمر مهم للغاية.
بعد ذلك يظهر السؤال المرتبط بالوجود العسكري الأميركي في غير مكان، خاصة في العراق، الذي يبدو أنه يسير على الطريق ذاته، فيما يبدو أنه من الصعب جداً أن تنجح إسرائيل في توريط أميركا بحرب على إيران، وأميركا تجر ذيول الهزيمة والفشل في أفغانستان، وكذلك في العراق الذي لم تنجح كما ادعت بعد احتلالها له مدة 15 سنة، في أن تنقله للديمقراطية، بل أكدت أن الاحتلال الأجنبي إنما يدمر البلاد التي يحتلها، ويخرج منها مطروداً، وهي في حالة خراب يرثى لها، تحتاج سنين طويلة حتى تضمد جرحها وتلم أشتاتها، لتنتمي إلى العصر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية