خلال زيارة لعكا للمشاركة بفعاليات مؤتمر «الرواية العربية في فلسطين»، الذي تنظمه وزارة الثقافة في ذكرى استشهاد غسان كنفاني، حظيت بفرصة التعرف على تجربة الفنان وليد قشاش ابن عكا الغنية والجديدة. وليد قدم حياته الفنية من أجل تجميل عكا فنياً، بهذه الكلمات يمكن اختصار التجربة التي لا بد أن تلفت انتباه أي زائر للمدينة العصية على الغزاة. تجربة تعكس عمق انتماء للمكان وأصالة إدراك بدور المثقف وعلاقته مع هذا المكان وبالطبع قضايا المكان، وفي هذا السياق قضية عكا الأساسية التي هي قضية كل مدن فلسطين، هي أن تحافظ على روحها وجمالها ورونقها وهويتها. وعليه فإن ما نذر وليد قشاش نفسه للقيام به هو الحفاظ على عكا ضمن هذا التوجه.
بالطبع كنت قد التقيت وليد أكثر من مرة قبل ذلك، وكانت المرة الأولى في مؤسسة الأسوار، قبل شهرين، ضمن نقاش مختلف حول الثقافة الوطنية وكيف يمكن لنا أن نعززها. في الطريق وقبل أن تصل الأسوار يلفت انتباهك مجسم لسمكة في ميدان قريب من البحر، ستعرف أن هذا واحد من عدة مجسمات وتماثيل قام وليد بنحتها أو بتركيبها من وسائط مختلفة من الخشب والحديد والطوب والأسمنت لتزيين ميدان عكا القديمة. في النقاش انتبهت لما يقوله الفنان المنهمك في مدينته حول أصالة الثقافة. ولم تكن السمكة مجرد سمكة تزين المكان، فدور الفن، آخذين أن جزءاً منه جمالي أيضاً، هو أن يروى حكاية المكان.
بعد ذلك قابلت وليد في مكان آخر ودار نقاش مختلف أيضاً. الفنان صاحب وجهة نظر، والحياة وجهة نظر بعمومها، وبما أننا في ظلال ذكرى غسان كنفاني، فإن الإنسان قضية كما كان يقول، وهو ملتزم إذا أراد أن ينتصر لإنسانيته أن يناضل من أجل قضيته. ببساطة ثمة هدف في الحياة على كل فرد أن يحدده لنفسه ويسعى لإنجازه، هذا يختصر الكثير. والمثقف الحقيقي هو أكثر أفراد المجتمع التزاماً بقضايا المجتمع الكبرى، فما بالك لو كان للمجتمع قضية أساسية مثل قضية غياب وطن أو محاولة سرقته، فإن مهمة الفنان هو أن يكافح من أجل أن يظل الوطن قائماً.
في الحالة العكية، فإن المدينة الجميلة التي هزمت نابليون وظلت عصية على مشروع السلب والسرقة رغم ما أصابها من ويلات، تكافح من أجل أن تحافظ على هويتها. الأمر نسبي فبعض المدن الفلسطينية طغت عليها المستعمرة ونجحت في تشويهها، وبعضها الآخر أصابها بعض الضرر، وبعضها ما زال يكافح من أجل التمسك بهويته. عكا من تلك المدن الصعبة صعوبة أسوراها، وصعوبة بواباتها الحديدية التي ما زالت قائمة، مدينة متماسكة حتى في البنيان والمعمار. ومع هذا فإن المدينة التي تبهرك برونق سحرها الفلسطيني العربي بحاجة لأن تكافح من أجل أن تظل قادرة على مواجهة كل التحديات التي تواجهها حتى تظل كما هي. جزء أساس من ذلك هو العمل على تطوير هويتها الثقافية. تخيلوا المدينة التي تضم قصوراً عمرها مئات السنين وأسواراً عمرها قرون وبيوت وأسبطة وزواريب مر عليها الزمن، ليس لها فعالية بعض المدن الأخرى من جهة الثقافة والجذب السياحي. عكا مدينة قلعة والقلعة تبدو مغلقة. بالطبع هذا القول لا يمس الجهود الكبيرة التي يقوم وقام بها الكثيرون والمؤسسات العريقة التي شقت طريقها رغم كل الصعاب في المدينة مثل الأسوار حيث التقيت وليد، وهي مؤسسات ساهمت في حفاظ المدينة على هويتها وأصالتها. ومع هذا فإن عكا كانت بحاجة للمزيد من أجل تظل تشد البصر وتسرق الألباب.
وليد قشاش قام بجملة كبيرة من التدخلات الفنية في البلدة القديمة من أجل أن يضيف هوية ثقافية جديدة للمدينة. فقد قام بتعليق مجموعة كبيرة من اللوحات والأعمال والمجسمات والمنحوتات الفنية على جدران الزواريب. بعض الزواريب تجد فيه عشرات الأعمال الفنية معلقة على الجهتين، وحين تسير في الطريق إلى بيتك أو إذا كنت سائحاً وكنت تمر في الزاروب فأنت فعلياً تمر في ممر متحفي. هكذا تصير الزواريب متاحف مفتوحة. وطالما الزاروب يأتي تحت البيوت والأسبطة فالأعمال الفنية محمية من المطر ومن الريح. التجربة صار لها سنوات وهي تكتسب المزيد من الشهرة والانتباه من المارة. لا يقتصر الأمر على الزواريب فقط؛ إذ إن وليد يقوم بتعليق اللوحات الفنية والأعمال والمجسمات في مناطق مختلفة داخل الأسوار، حيث لا يمكن أن تفوت عن نظر المارة. فثمة كرسي معلق وهناك لوحة تكوينية من الحديد والخشب في الجوار، وتمثال حديدي لرجل سيسقط عن الكرسي عما قليل. حتى تلك الأجواء التي تدخل فيها الأعمال تعكس قليلاً من قلق المدينة وتوترها وهي تبحث عن الاستقرار. أعمال وليد مثل المدينة غير مستقرة رغم عمرها المديد، تبحث عن الألفة، وهي مثل الفلسطيني الذي يكافح من أجل أن يظل في المكان.
ومع هذا، فإن وليد أقام متحفه الشخصي في قبو كان يستخدم في العصور الوسطى بئراً. لم تكن ثمة بئر عندما اكتشف وليد وجوده خلال أعمال جانبية كان يقوم بها، فقام بتنظيفه وتهيئته وبات متحفه الخاص. في أعمال وليد تتداخل المدارس الفنية من الانطباعية والكلاسيكية والتجريد والتفكيكية وتظل الغلبة بالتأكيد للدادائية، وعليه أطلق على متحفه متحف «الدادائية»، إنها شغف وليد الكبير. هناك لوحات وأعمال وتراكيب وبعضها تمت صناعته ليلائم شكل وتجاويف المكان. حين تسير في متحف وليد قشاش تشعر أنك تسير في رحلة عن تاريخ الفن، لكن بالتأكيد تشعر بأنك في مكان يعيد توظيف الفن والثقافة في إعطاء هوية جديدة ومتجددة للمكان. وهذا ما قصده وليد من وراء أعماله في ميادين عكا وزواريبها، كما من وراء متحفه الخاص في قلب أسوارها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية