لم أعد أعرف كم مرةً اجتمعت القيادات الفلسطينية في القاهرة لتوحيد الكلمة والصفوف، ونحتاج كلنا إلى ساعات لمعرفة كم بلغت الاجتماعات الفلسطينية في العواصم العربية وغير العربية «لإنجاز» هذا الهدف!
وبالعودة إلى النتائج التي وصلت إليها كل هذه الاجتماعات، وما أفضت إليه، وما ترتب عليها فإن الحصيلة التي هي بين أيدينا حتى تاريخه، والوحيدة المؤكدة، وما نجمع عليها بصرف النظر عن خلافاتنا واختلافاتنا، وعن تعارض أو تناقض تفسيراتنا وتبريراتنا لها (الفشل والإخفاق) والعودة المباشرة والسريعة الى نقطة الصفر او ما دونه أحياناً، وذلك لأن بعض هذه الاجتماعات أدى فيما أدى إليه إلى تعزيز الافتراق، وسن الرماح، وتوريط شعبنا كله بانقسام على اثر انقلاب، أو حروب لا طائل من ورائها، ناهيكم طبعاً ما نتج عنها من ثقافة التخوين والتكفير، والعداء والاستعداء، ومن مزايدات ومناقصات كان معظمها مجرد «معارك» وهمية، وبطولات «دنكشوتية»، وافتعالات لإخفاء المصالح الخاصة، والاعتبارات الفئوية تحت وابل من الدخان الكثيف الذي لوث كامل منظومة العلاقات الوطنية، وسمم البيئة الفلسطينية برمتها، وأبقى الحالة الفلسطينية في وضع الارتهان والهوان على حد سواء.
ساهمت إسرائيل في هذا الارتهان والهوان، واستحسنت الولايات المتحدة السياسة الإسرائيلية في إذكاء نار الفتنة والانقسام، وشاركت بعض دول الإقليم العربية وغير العربية في هذا المخطط المعلن والمفضوح، تحت يافطات الحرص على وحدة الفلسطينيين، وتحت مسميات سياسية باتجاه الحلول والتسويات، أو «خشية» على الحقوق والأهداف، أو لاعتبارات خاصة بهذه الدولة أو تلك و»الحاجة» الى استثمار الحالة الفلسطينية في ترتيب أوراق وأدوات ومصالح وأدوار هذه الدول، وما يمكن ان توظفه من الحالة الفلسطينية في خدمة أهدافها المباشرة والبعيدة على حد سواء.
ارتبك التدخل الإسرائيلي على هذا الصعيد واصبح وتحول الى منظومة جديدة من الأولويات الإسرائيلية، وخصوصاً بعد الحرب الأخيرة، ولم يعد الموقف الأميركي تابعاً أوتوماتيكيا للموقف الإسرائيلي، وللموقف اليميني المتطرف على وجه التحديد، ولم يعد موقف او مواقف ذات الدول الإقليمية العربية وغير العربية على نفس النسق الإسرائيلي، وتغيرت المواقف والاعتبارات والاستعدادات بعد سقوط ترامب، وبعد ترنّح نتنياهو، وبعد ان اتضح للجميع ودون استثناء أن اللعبة توشك على الانتهاء، والحكاية في فصلها الأخير تغيرت وانقلبت بفعل الموقف الذي فرضه الشعب الفلسطيني على الجميع، وبفعل ما فتح هذا المتغير الهائل من آفاق جديدة لإعادة رص الصفوف الوطنية، واستعادة زمام المبادرة الوطنية، وإغلاق ملف الارتهان وتصفية حالة الهوان.
لأسباب ربما سنأتي عليها في مقالات قادمة، سلمت إسرائيل بأن تجاوز الدور المصري اصبح مستحيلاً، وإبقاء هذا الدور في «مفاوضات» استعادة ما لدى فصائل المقاومة من أسرى أو جثامين، أو في حدود وقف لإطلاق النار أو غيرها من «الأدوار» التي كانت تراها لم يعد مجدياً ولا ممكناً.
أما الإدارة الأميركية الجديدة فقد ذهبت الى ما هو أبعد من ذلك بكثير وكادت تحصر الملف كله في الدور المصري، والتحق الموقف القطري والتركي أيضاً بهذا الركب، وامتنعت إيران عن الوقوف المباشر ضد هذا الدور.
ضاقت كثيراً الساحات أمام من كان يتحفظ على الدور المصري في الواقع الفلسطيني، وانتعش الدور المصري الى درجة أن الكثيرين من هؤلاء المتحفظين باتوا ينادون، اليوم، بزيادة هذا الدور وتعزيزه، واعتباره الدور الوحيد القادر على «فرض» إعادة توحيد الحالة الوطنية الفلسطينية.
باختصار، أمام مصر، اليوم، فرصة قد لا تتكرر أبداً، وقد لا تتوفر لها كل الظروف والمعطيات التي تتوفر لها، اليوم، للضغط على كل الأطراف الفلسطينية، ودون استثناء للوصول الى هذا الهدف.
وفيما أرى فإنها ستكون المرة الأولى التي يمكن للقاهرة ان تتحدث مع الجميع بلغة واضحة ومحددة وملموسة، وبلغة العقل والمنطق ولغة الحقائق والمعطيات، بل وبلغة الحسم التي تنهي كامل مراحل المخاطبات والمناشدات والحلول المعوّمة والصيغ الفضفاضة والمجاملات المعهودة.
وعلى القاهرة تقع، اليوم، مسؤولية خاصة بعد المسؤولية التي تقع أولاً وقبل الجميع على الجانب الفلسطيني، بأن تقدم للجميع خارطة طريق واضحة في الأسس والمبادئ والمنطلقات، وفي المضامين الوطنية للتوافقات، وفي آليات التنفيذ وجداولها الزمنية، وفي الالتزامات التامة بها، وفي التصدي المصري لكل من يحاول ان يعرقل الوصول إليها او يمنع او يمتنع عن تطبيقها.
وعلى الجانب المصري ـ كما أرى ـ أن يقدم خارطة طريق متكاملة على شكل وثيقة جديدة للعمل الوطني بعد التشاور الكامل مع كل فصائل العمل الوطني، بل وبعد التشاور المطلوب مع كل دول الإقليم وفق اعتبارات المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، ووفق الإمكانيات الواقعية التي باتت تتوفر، اليوم، لوضع هذه المصالح على السكة الوطنية التي ستؤدي الى إنجازها.
المسؤولية المصرية هذه المرة أكبر من كل المرات السابقة، لأن الفرصة متاحة، والتهرب اصبح أكثر صعوبة، والهروب الى الأمام لم يعد متاحاً، ولغة الانقسام ومفرداته لم تعد مقبولة، وأصحاب مصالح الانقسام لم يعد بإمكانهم تغطية شمسنا بغربالهم، ولم نعد على أي استعداد لسماع نعيق غربانهم أيضاً.
خارطة الطريق لها أسس ومنطلقات، ولها مضامين سياسية ولها آليات إنجاز ملموسة وجداول زمنية محددة.
في الأسس والمبادئ والمنطلقات هناك مجموعة من العناوين لعلّ أهمها:
ـ وحدة الشعب والأرض والقضية الوطنية، بصرف النظر عن أي اعتبارات مهما كانت وكيفما تطورت وتحولت.
ـ الشعب الفلسطيني له تمثيل وحيد وشرعي واحد هو المنظمة صرف النظر عن واقعها.
ـ لم يعد مقبولاً أن تبقى المنظمة دون إصلاح جذري حقيقي، ودون تفعيل، ودون مقاييس ومؤشرات ملموسة لهذا الإصلاح، ولهذا التفعيل، وعلى أن تشمل الجميع الوطني دون استثناء.
ـ النظام السياسي الفلسطيني بحاجة ماسة وفورية لإعادة بنائه وفق مبادئ الديمقراطية، ووفق طبيعة المرحلة باعتبارها حركة تحرر وطني، ما يفرض ويلزم الجميع بآليات وطنية دستورية للشراكة الوطنية.
ـ المنظمة هي عنوان السياسة الفلسطينية والسلطة هي عنوان الإدارة الاجتماعية، ودون تداخل ولا نزاع حول المهام والأدوار والأدوات.
ـ لا شرعية دون انتخابات دورية لكل المؤسسات الوطنية، وشرعية أي مؤسسة دون انتخابات يجب ان تكون بالتوافق الوطني الشامل، ومن خلال المؤسسات الشرعية نفسها.
ـ لا شرعية لأي معارضة خارج نطاق الدستور، وخارج نطاق القانون، ولا مجال لازدواجيات في السلطة تحت أي سبب من الأسباب ووحدة المؤسسة الوطنية شرط أساسي للوحدة.
ـ البرنامج السياسي هو برنامج حق تقرير المصير بكل ما يعنيه في الحالة الفلسطينية من تجليات وتجليات نابعة من المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني.
وهو برنامج العودة حسب الشرعية الدولية وقرارات الشرعية العربية والإسلامية، وبما يشمل على أهمية وأحقية العودة لأهلنا في الداخل إلى مدنهم وقراهم، وحق شعبنا بإقامة دولته الوطنية على كامل حدود الرابع من حزيران و القدس الشرقية كاملة غير منقوصة عاصمة للدولة بصرف النظر عن أي ترتيبات بشأن أماكن العبادة للديانات الثلاث، وعلى ألا يمس ذلك بالسيادة الوطنية عليها.
ـ حق شعبنا بممارسة المقاومة بما في ذلك المسلحة للدفاع عن النفس وفي مواجهة التوسعية والعدوان واعتبار المقاومة الشعبية هي الأسلوب الرئيسي للمقاومة في هذه المرحلة التاريخية.
ـ وقف الاستيطان كشرط لأي مفاوضات وقفاً كاملاً، ووقف كل محاولات التهويد والمصادرة، وسياسات الاعتقال وهدم المنازل كشروط مسبقة للدخول في أي مفاوضات جادة للتسوية السياسية.
هذه هي معالم خارطة الطريق الممكنة والتي يمكن فعلاً أن تساهم بإعادة توحيد المؤسسة الوطنية كما توحد الشعب الفلسطيني في الميدان ودفاعاً عن حقوقه وأهدافه وعن مدينته ومقدساته.
فهل سيستغل الجانب المصري هذه الفرصة ويبدأ الانتقال من فلسطين إلى مناطق أخرى كزعيم لهذا الإقليم؟
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية