لأول مرة منذ الانتفاضة الأولى تعود القضية الفلسطينية إلى مكانتها الطبيعية في قلوب وضمائر شعوب العالم، وتتصدّر اهتمامات حركات التضامن الدولي وصُنّاع القرار في مختلف العواصم الإقليمية والدولية.
في سنوات ترامب الأربعة العِجاف حاولت إدارته اليمينية المتطرفة كل ما في وسعها لتصفية القضية الفلسطينية، وتقديم تاريخ وتضحيات ورواية الشعب الفلسطيني قربانًا لشراء التحالف مع المسحانية الصهيونية الإنجليكانية وحكومة اليمين الصهيوني ذات النزعات الفاشية، حيث يتبلور بصورة غير مسبوقة ذلك الثالوث العنصري المشبع بالكراهية الاستعلائية بين "الترامبية والانجليكانية والنتانياهوية".
بالمقابل، وفي ضوء المخاطر التي بدأت تعصف بالولايات المتحدة وعديد من العواصم الدولية، جرّاء نمو ظاهرة اليمين الشعبوي التي بدأت تستمد مكانتها الدولية من دعم ترامب، وتوظيف مكانة الولايات المتحدة في إطار تلك التحولات الكونية شديدة الخطورة، سرعان ما ظهر تحالف كونيّ مضاد من القوى الاجتماعية والسياسية في تلك البلدان لمناهضة مخاطر هذا الخطر وما يحمله من مظاهر العنصرية والكراهية والاستخفاف بقيم العدالة والحرية وقضايا البيئة وتسارع الانقضاض على كل مكونات القانون الدولي بما يحمله من معايير محاولة التوازن بين مصالح الشعوب والدول، وبين القيم الأخلاقية التي تُنظّم مضمون العلاقات الدولية وطابعها الديموقراطي، وفي مقدمتها حق الشعوب في تقرير مصيرها، وما أفرزته من حقبة نهاية الاستعمار المباشر ونيل العديد من شعوب العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لاستقلالها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدًا في نهاية الخمسينات وحتى أواسط السبعينات.
على مدار نهوض حركات التحرر في تلك السنوات، تحولت القضية الفلسطينية لأيقونة الشعوب التي ظفرت باستقلالها، وتَوَّجت ذروة هذا التضامن بالانتفاضة الشعبية الكبرى التي أعادت الاعتبار مجددًا للقضية الفلسطينية.
جاء مسار أوسلو الذي تم ترويجه دوليًا وكأن القضية الفلسطينية دخلت مسار الحل والتسوية السياسية ليدخل معهما التضامن الدولي في سبات طويل. باندلاع الانتفاضة الثانية، وما كان قد سبقها من تراجع في مكانة القضية الفلسطينية في وعي شعوب العالم، وتمكُّن اسرائيل في حينه من ربط السمة الأساسية للمواجهة العسكرية التي اتسّمت بها الانتفاضة الثانية، سيما العمليات الاستشهادية بالحرب الكونية ضد الإرهاب، وما أفضت إليه تلك المواجهة من الانقضاض على منجزات الشعب الفلسطيني ومن نتائج كارثية طالما سعت إليها اسرائيل والمتمثلة أساسًا بالانقسام الفلسطيني في حزيران 2007.
وبفعل هذا الانقسام الذي قصم ظهر حركات التضامن الدولي إزاء قضية شعبنا، لم تفلح كل الجهود التي حاولت فيها الحكومة في حينه عبر خطط الإصلاح والتنمية، والنهوض بواقع المؤسسات لتنمية القدرة على الصمود وتوسيع نطاق المقاومة الشعبية، من ترميم الأضرار الفادحة التي لحقت بدور حركات التضامن الدولية وبمكانة القضية الفلسطينية كقضية تحرر جوهرها انتزاع الحق في تقرير المصير للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.
السنوات العجاف لحقبة ترامب وغطرسة القوة التي اتسمت بها سياسات الاحتلال خلال تلك الحقبة، وهرولة عدد من الأنظمة العربية للتطبيع، ليس فقط المجاني مع إسرائيل، بل وربما لكسب ودها كسياج لحماية هذه الأنظمة من شعوبها أو من الاصطفافات الإقليمية المفتعلة والمتناقضة مع مصالح شعوب المنطقة، ذلك كله فيما يبدو وصل نهاياته القصوى بهزيمة الترامبية، وبفعل ما تحققه الحراكات والنشطاء الفلسطينيين من نجاحات بالتعاون مع التيارات التقدمية في معركة مواجهة العنصرية والكراهية على الصعيد الكوني، سيما في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من دول أوروبا الغربية.
في إطار هذا المناخ الدولي جاءت المواجهة الأخيرة للصراع الفلسطيني الاسرائيلي، والتي اتسمّت فيها الممارسات الاسرائيلية منذ اللحظة الأولى بالعنصرية والكراهية، التي سعت فيها اسرائيل استباق التحولات الجديدة لتكريس تهويد القدس المحتلة بتهجير عائلات حيّ الشيخ جراح وسلوان وغيرها من الأحياء العربية في اطار استكمال تهويد وتغيير الطابعين الجغرافي والديمغرافي للمدينة المقدسة، بالإضافة إلى المسّ بالكرامة الوطنية وطمس الموروث الثقافي والديني من خلال محاولات الهيمنة والمسّ بمكانة الأقصى والمقدسات، والتي بمجملها أعادت للذاكرة مضمون سياسات التطهير العرقي للنكبة المستمرة والتي تواصلت بكل أشكال التمييز العنصري بصورة خاصة مع الأقلية الفلسطينية العربية التي تشبثَت بأرضها وبيوتها وقاومت باللحم الحيّ سياسات التطهير العرقي داخل اسرائيل.
لا يمكن هنا أيضًا تجاهل أثر حجم الظلم الذي عانى منه أبناء شعبنا في قطاع غزة خلال سنوات الحصار الطويلة ومحاولات اسرائيل لتكريس فصل القطاع عن الكيانية الوطنية الموحدة، ما تخلل هذه السنوات من حروب تدميرية، في إيقاظ الضمير الإنساني لشعوب العالم، التي، ورغم انشغالاتها بمواجهة آثار وتداعيات كوفيد 19، وآثاره الاقتصادية، فقد خرجت عن صمتها أو ترددها لتطالب بوضع حد ليس فقط للعدوانية والاحتلال الاسرائيلي، بل ولوضع حد لازدواجية معايير الدول العظمى في مواجهة العدوانية والجرائم الاسرائيلية ومقولات "حق اسرائيل بالدفاع عن نفسها" دون أي اعتبار أو التفات لحقّ الفلسطينين بالدفاع عن أنفسهم وأرضهم وممتلكاتهم من إرهاب المستوطنين والمؤسسة العسكرية على حد سواء. وربما يكون هذا الموقف الناهض لحركات التضامن الدولية هو الذي قطع الطريق على محاولات التضليل الإعلامي الاسرائيلية لحراكات ومظاهرات الملايين من الناس بربط المقاومة الفلسطينية مجددًا بالإرهاب بذريعة استخدام المقاومة الفلسطينية للصواريخ، رغم عدم تعاطف هذه الحراكات مع اطلاق الصواريخ . فظلّت الصورة الطاغية على مشهد المواجهة هي حجم الدمار لقتل كل أسباب الحياة في هذه البقعة من العالم التي لم تعد صالحة للحياة كما أبرزتها تقارير الأمم المتحدة على مدار السنوات الماضية، الأمر الذي جعل من صور الضحايا الأطفال التي نشرتها "النيويورك تايمز"، ولأول مرة، عنوان ورمزية هذه المواجهة والظلم الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني وضرورة أن يتوقف.
نقطة الضعف والثغرة الوحيدة التي بقيت في هذا المشهد، وتعرقل شفافيته التحررية العادلة والمطلقة، هي حالة الحركة الوطنية ونظامها السياسي المتهاوي، والتي في حال استمرارها دون معالجة وطنية وتقدمية، فإنها ستُلقي بظلالها على دور حركة التضامن الدولي، وستضعها أمام خيارين؛ إما الانكفاء مجددًا سيّما إذا استمر الانقسام، و"عادت حليمة لعادتها القديمة" بالعودة للمفاوضات دون التزام اسرائيلي وأمريكي مسبق بالاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وفي مقدّمتها حقه بالحرية والعودة وتقرير المصير، أو أن حركات التضامن الدولي ستكون مضطرة للتعامل مع التعقيدات التي يعاني منها مشهد الانقسام الفلسطيني، وينحاز للاتجاهات والحراكات والقوى التقدمية الجديدة الناهضة، والتي عليها أن ترى وتعرِّف نفسها كجزءٍ لا يتجزأ من النضال الكوني التقدمي ضد العنصرية والكراهية، ومن أجل حق الشعوب في الحرية وتقرير المصير والسيطرة على مواردها لمعالجة قضايا الفقر والبيئة وغيرها من قضايا العصر.
اتسّاع حركة التضامن الدولي مع فلسطين، وانتقالها للمطالبة بربط السياسات الكولونيالية للاحتلال الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني بالمعركة التقدمية الكونية للشعوب ضد العنصرية والكراهية ومن أجل العدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، يُشكّل نقلة نوعية لصالح القضية الفلسطينية، ولكنه يستدعي جهدًا مكثّفًا لتحويل طاقة ومخزون التضامن الهائلة للشعوب إلى سياسات رسمية لدولها في معركة مواجهة وتفكيك الطابع العنصري لدولة الاحتلال تمهيدًا لتحرير العدالة في هذه البلاد وتمكين شعبنا من تقرير مصيره، سواء في دولة واحدة وفق التجربة الجنوب أفريقية، أو تسويةً تضمن الحقوق الوطنية التي أقرتها الشرعية الدولية بالعودة والاستقلال الوطني في دولة مستقلة تُمهِّد الطريق نحو حل تاريخي ديموقراطي غير عنصري للصراع.
علينا يتوقف مسار ومضمون ومدى فاعلية هذا التضامن، وما يستدعيه من تغليب قانون الوحدة في مواجهة الاحتلال وصون الطابع التقدمي والديموقراطي لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، وما تستدعيه من نضال لإعلاء قيم العدالة والحرية وحقوق المرأة والإنسان دون أي تمييز في اللون أو العرق أو الجنس أو الدين، والحق في التعبير والإبداع والدفاع عن الثقافة الوطنية التقدمية كمُكَّون أساسي للهوية الوطنية الجامعة كما كرّسها رواد ورموز الثقافة الوطنية والإنسانية وفي مقدمتهم ادوارد سعيد ومحمود درويش، وغيرهم من بناة الهوية والثقافة الوطنية المعاصرة.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية