استكمالاً للنقاش السابق على هذه الصفحة، فإن ما حدث من هبة شعبية في الداخل الفلسطيني لم يكن صدفة عابرة ولن يكون مجرد اقتراح عاطفي على ما حدث في المسجد الأقصى.

من المؤكد أن سياسات الاحتلال في أسرلة المجتمع الفلسطيني في الداخل وجدت نفسها عارية أمام حقيقة هوية هذا المجتمع الذي قد تقوم الدولة بتغليفه قهراً وربما ارباكه وإحداث تحولات سطحية عليه، لكنها ليست عميقة بما يكفي لجعله مجتمعاً آخر. بالطبع أيضاً سيبدو افتراء على التاريخ أن نشير إلى ما حدث بوصفه الأوحد منذ النكبة ومنذ عملت دولة الاحتلال على تدجين الهوية العربي وتذويبها من أجل أن يصبح العرب في داخل الدولة الجديدة المبنية على أنقاض بلادهم مواطنين مطيعين، وربما عبيد بدرجة مواطن. فالعقود السابقة شهدت كفاحاً وطنياً مريراً من أجل الحفاظ على الهوية العربية وعلى الارتباط بالشعب الأصلى وتم دفع ثمن باهض جراء ذلك. وربما المؤكد أن كفاح الشعب الفلسطيني لم يتوقف يوماً عن أن يكون كفاحاً واحداً رغم سياقاته المختلفة.


بعض المدن تم محاولة تشويه صورتها بشكل كامل وتفاصيل الجغرفيا تم تبديلها، وحتى من بقى في البلاد لم يسلم من عمليات تهجير داخلية من أجل ازاحة ومحو مفهوم المكان من ذاكرته. الاحتلال شن حرباً على رواية الفلسطيني عن وجوده ليس فقط من خلال ابتداع تاريخ لم تثبت صحته وزراعة آثار لا تنتسب للمكان وتشويه وقائع عن تلك الآثار بل أيضاً من خلال عمليات النفي المستمرة من أجل إعادة صياغة المكان حتى يبدو مكاناً مختلفاً ويكون وجود الفلسطيني فيه «عبوراً» لم يترك أثراً. من هنا فإن عمليات التدجين صاحبتها عمليات مسح لشكل المكان ولعلاقات الإنسان بالمكان من خلال عمليات الصهر وإعادة الخلق سواء في المدارس أو الجامعات أو التكوينات المجتمعية.
هكذا تم خلق مصطلحات ربما أكثرها شيوعاً وتعبيراً عن هذه السياسات «عرب إسرائيل»، حتى صار يمكن لعائلتي التي بقيت في يافا رغم النكبة واحتفظت بجزء من أملاك العائلة أن يكونوا عرباً في إسرائيل فيما أنا فلسطيني. هذه الحدود هي التي كان يراد بها محو هذا الرابط في المصير المشترك، على قاعدة أن الزمن والسياسات القاسية من شانهما أن يحدثا تحولات مهولة في بنية أي مجتمع. بعبارة أخرى كان يجب أن نندثر ونصبح مجرد مجموعة أفراد اختفت في سياق تاريخي وانقرضت، وربما يقوم الغزاة بوضع نصب تذكاري لنا على شاطيء يافا يتذكرون العربي الجيد الذي مات. تخيلوا المتاحف المقامة لحضارات الأمريكيين الأصلانيين في المدن الأمريكية. لكن هذا لم يحدث.

الذي حدث اتباع سياسات أخرى من أجل أن يتم تذويب الهوية العربية في داخل هوية جديدة ديدنها المواطنة والولاء للدولة. لا بأس لو أنشد الطفل العربي في يافا سلاماً وطنياً يمتدح قتل اجداده قبل عقود، ولا بأس لو تعلم في المنهاج أنه لا يوجد شيء اسمه عربي في هذه البلاد فثمة مُلّاك إلهيون للبلاد كانوا مخبئين في السماء ريثما تريد لهم الإرادة الإلهية أن يعودوا إليها. لا بأس. المهم أن تظل «يهودية» الدولة هي أساس كل العلاقات فيها. على العربي أن يقبل أن وجوده غير حقيقي وأنه مجاز في مخيلة الجنرال المنتصر.


لم يتم انتاج المجتمع الإسرائيلي الجديد الذي قوامه القبول بهيمنة اليهود. لم يكن السعي لتمرير قانون المواطنة والإصرار على يهودية الدولة إلا القناع الأبرز في ماهية هذا المجتمع المراد للمواطن الفلسطيني الذي بقي في بيته وقريته وتحمل كل ما تحمل من سياسات الإدارة العسكرية وسياسات التميز ضده، أن يقبله بسرور. عليه أن يصفق للدولة التي تريد أن تزيل أي وجود له، وعليه أن يقبل مثلاً أن تسرق مسجده وكنيسته وتقول له إن هذه ليست اماكن مقدسة له بل لغيره، وعليه أن يحتفل مسروراً بيوم نكبته. لكن هذا لم يحدث.


وإذا كانت دولة الاحتلال قد فشلت حتى اللحظة في انتاج «المجتمع الإسرائيلي اليهودي» المبني على نقاء الدين «غير المؤكد» وعلى الهوية الثابتة التي لم تتحقق في أي يوم في التاريخ، فهل كانت ستنجح في جعل الفلسطيني العربي الذي ينظر لحضارته التي لم تغرب عنها الشمس مواطناً إسرائيلياً! خبرات الشعوب وتجاربها كما سياسات الاستعمار البشعة عبر التاريخ اخبرتنا عن فشل ذريع في هذا في سياقات هشة على المستوى الهوياتي فما بالك في سياق يعتمد على الهوية كمكون وجودي في تعريف ذاته، أقصد السياق العربي في فلسطين. مرة أخرى القصة لم تكن مجرد هبة أو خروج عفوي للشارع، ولم يكن منظر علم فلسطين يرفرف في شوارع يافا مجرد احتجاج عابر، كما لم تكن الحناجر التي صدحت بوحدة حال الشعب الفلسطيني مجرد أصوات غاضبة تريد أن تعبر عن حنقها وسخطها، ثمة استعادة للحظة تاريخية لم تغب. الشعب الفلسطيني الواحد الموحد الذي وإن حملته الأقدار إلى جهات مختلفة فإن ثمة مآل واحد له، إنه مآله المنتظر.


السؤال الأهم تظل إجابته في سياق أوسع. هل يمكن استعادة النقاش حول المصير الواحد للشعب الفلسطيني؟ الاجابة المتسرعة بالـ «نعم» والـ «لا» تبدو مخادعة ولا تعكس فهماً دقيقاً لعمق السؤال. ربما علينا أن نعيد ترتيب أولويات الكفاح الوطني من أجل الإشارة إلى هذا المصير المشترك. وهذا بكل الأحوال يجب أن لا يكون على حساب وجود الفلسطينيين داخل الجغرافيا الأبدية والدائمة. بمعني أن لا يكون على حساب إخراجهم منها. إن التعمق في المآلات المشتركة للمجتمع الفلسطيني يجب أن يكون على قاعدة الاعتراف باختلاف السياقات والحاجة لخلق مصير واحد. عملية معقدة لكنها ليست مستحيلة أمام الإبداع الكبير الذي يقدمه شعبنا كلما ظننا أننا فقدنا البوصلة.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد