كُنت شاهداً على حوارٍ باللغة العبرية تخلله جدل بين (شاويش المردوان) كما كنّا نُسمّي مُمثل أحد أقسام السجن أمام السجانين، وبين ضابط الأمن المُسمّى بالعبرية (كستين هبيتحون). والمكان هو سجن النقب الصحراوي جنوب فلسطين، المُسمّى إسرائيلياً (كتيسعوت) وفلسطينياً (أنصار 3)، والزمان بعد توقيع اتفاقية أوسلو بأيام، والموضوع هو اسم الكيان السياسي الذي سينشأ بموجب الاتفاقية، فقد أصرَّ ممثل القسم المسجون بأنّه دولة وبالعبرية (مديناه)، بينما أصرَّ ضابط الأمن السجّان بأنه حكم ذاتي وبالعبرية (اتونوميا). ولما رأى السجّان إصرار السجين على رأيه، قال له: بإمكانك أنْ تسميها دولة أو إمبراطورية لو شئت، ولكن هذا لن يُغيّر من المضمون شيئاً، والمضمون هو حكم ذاتي (اتونوميا).

بهذه المنهجية الخطأ التي اتبعها (شاويش المردوان) في تسمية الحكم الذاتي دولة تعاملنا كفلسطينيين مع الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي أفرزتها اتفاقية أوسلو فغيرنا أسماء المصطلحات وبدلنا دلالات المفاهيم، لنوهم أنفسنا بأنَّ تغيير مُسميّات المصطلحات يُغيّر مضامينها، وأنَّ تبديل دلالات المفاهيم يُبدّل حقيقتها، فالرئيس هو رئيس دولة فلسطين وليس السلطة الفلسطينية، والوزير هو وزير دولة وليس مُديراً لملف في سلطة الحكم الذاتي، وهكذا جميع المناصب المدنية والرتب العسكرية، التي مُنحت بكرمٍ طائي لكل مستحق وغير مستحق حتى فاقت بعددها دولاً تفوقنا عدداً أضعافاً مُضاعفة، وهذا التغيير والتبديل طال المصطلحات والمفاهيم السياسية فشوّهها تضخيماً أو تصغيراً، ومنها مفهوم السيادة.

برز مفهوم السيادة مؤخراً بعد إقرار الانتخابات الفلسطينية العامة، واستُخدم مرتبطاً بإجراء الانتخابات في مدينة القدس ، فاعتبره بعض الساسة الفلسطينيين مظهراً للسيادة الوطنية الفلسطينية على القدس، وذهب بعضهم إلى اعتبار الانتخابات في القدس بمثابة معركة سيادة مع الاحتلال، وأنَّ عدم إجراء الانتخابات في القدس يساوي التنازل عن السيادة الوطنية الفلسطينية على المدينة، وكأنَّ السيادة الفلسطينية موجودة فيها وعدم إجراء الانتخابات فيها سيؤدي إلى فقدانها، والتفريط في السيادة هو تفريط في القدس نفسها، وهكذا تمت عملية تشويه مفهوم السيادة وتضخيم دور الانتخابات في علاقتها بالسيادة، وفي الحقيقة رغم أهمية إجراء الانتخابات في القدس المُحتلة للسلطة الفلسطينية كأحد مظاهر ممارسة السلطة المنقوصة تحت الاحتلال، ولأهل القدس كأحد مظاهر ممارسة حقوق المواطنة السياسية وواجباتها في دولة غير موجودة، إلاّ أنَّ هذا لا زال بعيداً عن مفهوم السيادة.

السيادة كمفهوم سياسي يرتبط بممارسة الدولة لسلطتها الوطنية على إقليمها الجغرافي أرضاً وشعباً، وامتلاك الدولة لسلطة الهيمنة فوق إقليمها ومواطنيها، والسيادة أعلى من السلطة، وممارسة السلطة هو أحد مظاهر السيادة، وتنقسم السيادة حسب قواميس المصطلحات السياسية إلى داخلية وخارجية؛ فالسيادة الداخلية هي الحق الذي تتمتع به الدولة في قيادة وتوجيه الجسم السياسي الوطني، وفي ممارسة السلطة بهدف تحقيق المصلحة العامة للمواطنين، أما السيادة الخارجية أو الدولية فهي الحق الخاص بدولة من الدول في ممارسة استقلالها، أي أنها لا تخضع في قراراتها وممارستها لسلطة أية جهة خارجية ولا تتعرض من حيث المبدأ لضغط أي من الدول الأخرى. ولأهمية عنصر السيادة للدولة فقد جعلها بعض فقهاء السياسة عنصراً رابعاً للدولة بعد الأرض والشعب والسلطة. وبهذا المفهوم السياسي للسيادة يتضح علاقته الحقيقية بإجراء الانتخابات العامة في مدينة القدس.

إجراء الانتخابات التشريعية وغيرها في مدينة القدس مرتبط بإرادة أقوى من السلطة الفلسطينية، وسلطة أعلى من السلطة الفلسطينية، هي إرادة وسلطة دولة الاحتلال، وإذا تمت عملياً فإنها تتم تحت الاحتلال، فهي نوع من ممارسة بعض الحقوق السياسية وبعض أعمال السلطة تحت الاحتلال، فهي بذلك بعيدة عن مفهوم السيادة بمضمونها السياسي الحقيقي، وإن رأى البعض فيها سيادة، فهي سيادة وهمية كبقية المصطلحات والمفاهيم التي خدع بها بعض الفلسطينيين أنفسهم ليوهموا أنفسهم أنهم أنجزوا بلسانهم مالم يستطيعوا إنجازه بعملهم.

والسيادة الحقيقية في القدس وكل فلسطين هي السيادة التي يتم انتزاعها بالمقاومة الشعبية بكافة أشكالها، وهو ما فعله شباب القدس في الأيام الأخيرة من مقاومة الاحتلال والتصدي لمستوطنيه في القدس دفاعاً عن المسجد الأقصى وطلباً للحرية، وتأكيداً على أن معركة السيادة في القدس تمُر عبر المقاومة وليس الانتخابات. فإذا كانت السيادة الإسرائيلية مفروضة على القدس بقوة السلاح الغاشم والواقع الظالم والقوانين غير الشرعية، فإنَّ السيادة الوطنية الفلسطينية مفروضة في القدس بقوة سلاح الحق والمقاومة الشعبية والقوانين الثورية الشرعية. وحتى لو لم يستطع الشعب الفلسطيني فرض سيادته الوطنية بالمفهوم السياسي الكامل على أرضه من خلال الثورة والمقاومة في المدى المنظور، ولكنه بامتلاكه إرادته الوطنية الحرة برفض الاحتلال والثورة عليه ومقاومته يكون قد غرس في أرضه المباركة بذور السيادة الحقيقية التي ستنبت أشجار التحرير والعودة والاستقلال.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد