على مدار عقود من عمر الكفاح التحرري الفلسطيني، ظل الأسرى الفلسطينيون أبرز وأنبل ظواهر هذا الكفاح بوصفهم المقاتلين الحقيقيين الذين يدفعون ثمن هذا الكفاح. وربما منذ اللحظة التي سرق الغزاة البلاد وحاولوا إفراغها من أهلها، بدأت فكرة الأسر من أجل الحد من المقاومة لمشاريع التهجير والسلب. وعليه فقد ارتبط الأسر بالمشروع الصهيوني الهادف إلى تدمير البلاد وسرقتها لأنه ارتبط بالفعل النقيض المقاوم لهذا المشروع. وهذا منطقي في كل السياقات الأخرى خارج فلسطين وحتى في السياق الوطني خلال الاحتلال البريطاني الذي يسمى تجميلاً «انتداب». إن المكانة التي يحظى بها الأسير الفلسطيني كانت وستظل عالية ومقدرة من قبل كل أفراد المجتمع.
ثمة مقدسان في النضال الوطني الفلسطيني. الشهيد والأسير. الشهيد الذي قدم روحه في المعركة أو نتيجة مواجهة العدو، والأسير الذي يدفع فاتورة نضاله الوطني وكفاحه ضد الاحتلال. البشرية منذ فجر وعيها قدست مفهوم التضحية وكان تقديم القرابين أحد أول مظاهر التقرب من الآلهة لنيل رضاها. وظل هذا الفهم موجوداً في سراديب الوعي البشري متمظهراً في أشكال وتجليات مختلفة. ولعل أبرز هذه الأشكال بطبيعة الحال هي التضحية بالنفس، أيْ أن تقبل عن طيب خاطر أن تكون فداءً لفكرة أكبر. من هنا كان أجمل لقب حمله الفلسطيني هو الفدائي. صحيح أنه يقاوم فهو مقاوم وصحيح أنه يحمل سلاح فهو مسلح أو مقاتل، ولكن الأهم أن هذا الفلسطيني قرر أن يفدي بلاده بدمه.
وليس أقل توصيفاً الأسير. صحيح أن الأسير لا يصبح أسيراً بمزاجه ولا برضاه لأن أحداً لا يقبل أن يظل طوال عمره في غرفة مغلقة، لكنه أيضاً قبل أن يتم أسره قرر طواعية أن يناضل من أجل حرية شعبه، أن يفدى قضيته الوطنية. وربما لو تغيرت بعض سياقات الأحداث لكان شهيداً، لكنه الآن يقضي سنين عمره في السجن، يفدي شعبه وبلاده بعمره الذي يقضيه في الزنازين. هذا التشابه في مفهوم الفداء والسعي إلى تقديم العمر والجسد والسعادة الفردية من أجل الصالح العام، هو جوهر عملية التضحية المقدسة التي تجعل ممن يقوم بها شيئاً مقدساً.
هذا بالضبط ما أشرت إليه بأن الأكثر قداسة في الواقع الفلسطيني هما الشهيد والأسير. لأنهما الشخصان اللذان أثبتا بالدليل القاطع أنهما لا يقومان بما يقومان به من أجل مآرب شخصية. فمن يقدم روحه في سبيل الوطن ويقرر أن حياته لم تعد تعني له شيئاً أمام حياة الآخرين، وأن عمره ليس ضرورياً لأن ثمة عمراً أجمل ينتظر الآخرين، ومن يقرر أن حريته لا قيمة لها دون حرية الكل، وأن الحرية الحقيقة هي حرية الوطن وأنه جاهز لكي يقدم سنوات عمره هدية من أجل أن يتواصل كفاح شعبه لنيل الحرية. إن من يفعل ذلك ليس بحاجة لاختبار ولا لأن نقول وجهة نظرنا فيما يفعل.
لم يقتصر هذا على صعيد الوعي فقط بل انعكس في الممارسة الرسمية والشعبية. يبدو هذا منطقياً فالثورة التي لا تهتم بمن يدفع الثمن في المعركة لا يمكن لها أن تقنع الآخرين بالانضمام لها. ولكن من المهم التأكيد على أهمية مفهوم التضحية وما يترتب عليه من أثمان من شهادة وأسر في حماية العملية الكفاحية أيضاً. فتقدير التضحية دافع من أجل المزيد منها. والصورة الإيجابية للشهيد بوصفه البطل المقدام هي من كانت دوماً دافعاً للأجيال الشابة للالتحاق بالثورة. ولم يكن يمكن تخيل مسيرة الثورة لولا تدافع وتواصل الأجيال فيها. فمن يحمل الراية يسلمها لمن سيأتي بعده. هذا الوعي مهم جداً في الحفاظ على الديمومة والاستمرارية. ونفس الشيء ينسحب على مفهوم الرعاية الاجتماعية الرسمية لأهالي الشهداء وأهالي الأسرى كما للأسرى. فالمؤسسة الرسمية حين تقوم بتبني برامج الحماية والرعاية لهذه العوائل إنما هي تشجع الآخرين على مواصلة الانخراط في الفعل الكفاحي. في نهاية المطاف كلنا ضحايا الاحتلال، فهو القاتل وهو السجان وهو السارق، وكل ما نفعله ليس إلا ردة فعل على وجوده ومحاولة للتخلص منه. لذلك فإن توفير شبكات حماية لمن يقاتل من أجل بقاء شعبه يغدو واجباً وضرورة. وفي سياقنا الفلسطيني ظهرت بوادر هذه الرعاية والاهتمام منذ اليوم الأول للثورة وظلت حاضرة في مؤسسات السلطة الوطنية. وفي سبيل ذلك واجهت القيادة الفلسطينية مشاكل جمة لرفضها التعهد بعدم رعاية أسر الشهداء والأسرى والجرحى. بل إن حصاراً مالياً واجهته أكثر من مرة من أجل أن تظل وفية لمن أوفى بدمه وعمره في سبيل القضية الوطنية.
ونحن نحيي يوم الأسير الفلسطيني يبدو تذكر هذه المفاهيم والخطوط العامة في الوعي ضرورياً، لأن قضية الأسرى ليست قضية اجتماعية والتزامنا تجاه رعايتهم ورعاية أسرهم كما رعاية أسر الشهداء ليس لفتة إنسانية، بل هي جزء من كفاحنا من أجل أن يظل هذا الكفاح قائماً. وعليه فإن مواصلة تظهير قضية الأسرى والتذكير بما يعانونه من ويلات على يد السجان هو أيضاً جزء كفاحنا من أجل حماية حقوقنا. وفعلنا لا يجب أن يقتصر على ذلك، إذ إن السعي لحرية الأسرى يجب أن يكون في سلم أولويات الفعل السياسي. وربما أحد أخطاء أوسلو كان تسليمها بجعل قضية إطلاق سراح الأسري قضية من قضايا الحل النهائي. صحيح أن الاحتلال ما كان ليتوقف عن اعتقال المزيد لأن حريتنا الكاملة غير ناجزة، ولكن كان يجب تثبيت المبدأ. عموماً إن الحفاظ على قضية الأسرى حية وفاعلة في كل فعل سياسي وكفاحي ضرورة من أجل استمرار فعلنا السياسي والكفاحي.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية