في ضوء التعثر المبكر للمصالحة الفلسطينية، والأزمات المتوقعة التي قد تعترض تطبيقها، لابد للمراقب لتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، أن تستوقفه عدد من المحطات والمفاصل التاريخية الهامة، التي شكل فيها قطاع غزة ، ذلك الشريط الساحلي الذي لا تتجاوز مساحته 360 كلم2، علامة فارقة في الكثير من الحوادث التي بقيت تؤثر ردحا طويلا من الزمن في مسيرة القضية الفلسطينية.

وإن كانت الكثير من تلك الحوادث التي شهدها قطاع غزة، لها علاقة مباشرة بالصدام المتواصل مع الاحتلال الإسرائيلي، فإن هناك قسطا وافرا من القرارات والخطوات التي اتخذها ساسة غزة ومقاتلوها، فاجأوا فيها رفاقهم في الضفة المحتلة، والشتات الموزع على أرجاء المعمورة، والمطلع على بواطن الأمور في السياسة الفلسطينية الداخلية يدرك جيدا أن "الغزيين" طالما اندفعوا باتجاه إقرار أمر واقع في سهلهم الساحلي، وأجبروا باقي الفلسطينيين على اللحاق بهم، اتفقنا مع خطواتهم تلك أم اختلفنا، فهذا شأن آخر.. هذه غزة، التي لم تكن يوما في تاريخها إلا إقليما متمردا!

فقطاع غزة، حالة استثنائية على كل المستويات، هو استثنائي بما صنعه فيه التاريخ والجغرافيا، وبما صنعه فيه الاحتلال، واستثنائي بما أنتجته عقود من تفاعل الاحتلال والمقاومة، مع كثافة سكانية، وشح خطير في الموارد، وكيفما نظر المرء إلى أوضاع القطاع: سياسيا، واقتصاديا، وبشريا، واجتماعيا، يقف مذهولا أمام واقع لا تكفي لوصفه كلمة "مأساوي أو كارثي"، ومستغربا كيف تستمر الحياة فيه، فمن الاحتلال الكامل إلى التطويق والحصار الخانق، تزداد الظروف سوءا وتعقيدا.

وهكذا ظلت غزة بمقاومتها للاحتلال تارة، والضغوط التي عاشتها بفعل ظلم ذوي القربى تارة أخرى، قنبلة موقوتة معرضة للانفجار في أي وقت، وعندما وقعت أحداث يوم 14 حزيران يونيو 2007، لم يكن يتوقع أحد أن هذا اليوم سوف يسجل في التاريخ بأنه يمثل بداية مرحلة حاسمة في مسيرة القضية الفلسطينية.

· أهداف الإعلان المتوقع

آخر تبعات ذلك اليوم المشهود، الحديث الذي يدور مؤخرا في أروقة سرية وخاصة من قبل الساسة الفلسطينيين، حول إمكانية أن تعلن السلطة الفلسطينية في رام الله عن قطاع غزة "إقليما متمردا"، إذا لم تنجح المصالحة، بزعم السيطرة عليه من قبل "عصابة مسلحة"، طبعا الضفة الغربية ليست متمردة، لأنها مسيطر عليها من قبل "جيش الدفاع الإسرائيلي"، الشريك الاستراتيجي في السلام!

أهداف الخطوة الكارثية فيما لو تمت فعلا، تحت ضغوط محلية وإقليمية ودولية، ليست ببعيدة عن الأنظار، ولا بأس من تسليط الضوء عليها:

- محليا: لم يعد سرا أن قطاع غزة شكل خلال الفترة ما بين عامي 1994-2006، "مزرعة" بكل ما تحويه الكلمة من معنى لجملة من الساسة الفلسطينيين، الذين باتوا يطلقون على أنفسهم مصطلح "القيادة الفلسطينية"، سواء على صعيد التكسب غير المشروع من خلال السيطرة على معابر القطاع مع إسرائيل، وشركات الاحتكار التي أسست خصيصا لخدمتهم، وجاء "الحسم أو الانقلاب"، سمه ما شئت، ليحرم هؤلاء من جنة غزة المفقودة، وإلى الأبد! بالمناسبة الحديث وإن دار عن زمرة صغيرة العدد، لكنها تمثل ثقلا نسبيا في الساحة الفلسطينية، ونجحت –أيما نجاح- في إشاعة أجواء الزبائنية والمنتفعين في أوساط عدد من القوى السياسية، حتى لو لم تتجاوز نسبتها 2% خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة!

- إقليميا: كلنا يعلم مدى الفتور الذي يصيب علاقات حركة حماس –المسيطرة على قطاع غزة "المتمرد"- مع دول الجوار العربي بالعموم، وإن شهدنا عن كثب التدهور الحاصل في العلاقات الحمساوية المصرية، بصورة متسارعة جدا، بفعل النظرة "العدائية" للسياسة المصرية تجاه ما يسمى "ظاهرة الإسلام السياسي" والإخوان المسلمون على رأسهم، ليست سرية، فما بالنا والحديث يدور عن حماس الابن الشرعي للإخوان، وهم يسيطرون على شريط ساحلي يجاور مصر على حدودها؟

- دوليا: بات المجتمع الدولي حائرا في إيجاد الطريقة المثلى للتخلص من "كابوس حماس في غزة"، وجاء انتقاله من خلال الرباعية الدولية من العقوبات الاقتصادية، والمقاطعة السياسية، دون أن يحقق جدواه القاضية بتغيير مواقف الحركة، وإحداث انقلاب أيديولوجي فيها، الأمر الذي يجعل من إمكانية دعمه لقرار الإعلان عن أن قطاع غزة إقليما متمردا، أمرا واردا وبقوة! طبعا فات الموعد الذي نتحدث فيه عن تنكر الغرب المتحضر لنتائج الديمقراطية الفلسطينية، هذا كلام غدا من المعلوم في السياسة بالضرورة، ولا مجال لتكراره في هذه العجالة!

- إسرائيليا: بالإمكان الحديث عن نظرتين إسرائيليتين لما هو عليه الوضع في غزة، أقصد سيطرة حماس، نظرة آنية قصيرة المدى تتعلق بترسيخ هذا الانقسام الحاصل على الساحة الفلسطينية، وإفشال المصالحة التي تمت مؤخرا، وما يستوجبه ذلك من عدم تبني خيار إعلان غزة إقليما متمردا، لأن من شأنه على المدى البعيد- حسب ما يقول مروجو هذا الخيار- إعادتها لشقيقتها الضفة الغربية، ونظرة إستراتيجية بعيدة المدى تبدي خشية حقيقية وجدية من قيام حماس بعملية "حزبلة" سريعة، أي تحولها رويدا رويدا إلى منظمة حزب الله رقم 2، وما يشكله ذلك من مخاطر عسكرية وأمنية لا قبل لإسرائيل بها!

بهذا المعنى أو ذاك، لن يألوا القوم المتحمسون لهذه الخطوة في استخراج الفتاوى القانونية والمسوغات الدستورية، فضلا عن التشبث بـ"المصلحة الوطنية العليا" التي غدت تمثل قميص عثمان لدى مختلف القوى السياسية الفلسطينية، متمثلة قول ليلى العامرية: وكل يدعي وصلا بليلى   وليلى لا تقر لهم بذاكا!

· التبعات السياسية والمعيشية

مهما كانت المسوغات السياسية والدستورية لإمكانية الإعلان عن قرار غير مسبوق من هذا النوع، فإن آثاره ونتائجه الكارثية لن تتوقف عند هذه المسوغات، بل ستطال كل مجالات الحياة في غزة، على النحو التالي:

-   سياسيا: فيما لو أخذت هذه الخطوة طريقها للتنفيذ، فإن ذلك سيجعل كل دعوات المصالحة جزءا من الماضي، ولن تجد أفضل من صفحات الأرشيف التاريخي مكانا لها، ذلك أن اللجوء لمثل هكذا وسيلة لحل خلاف فلسطيني داخلي، لن تكون نتيجته بحال من الأحوال جلوس الجميع على طاولة واحدة، فضلا عن عودة تلك المشاهد المحزنة من تقاتل الإخوة، وما أفرزه من شقاء الأشقاء!

- أمنيا: القرار لن يقتصر على ورقة بعدة أسطر ممهورة بتوقيع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير –منتهية الصلاحية منذ أمد بعيد- بل سيستدعي ذلك أدوات ميدانية لتأخذ طريقها لـ"وقف هذا التمرد" الذي يحياه قطاع غزة، الأمر الذي قد يزين لأصحاب هذا الخيار إمكانية الاستعانة بقوات عربية ودولية لتطبيقه، لاسيما إن أخذ غطاء شرعيا عربيا ودوليا، وقد رأينا العجب العجاب خلال السنوات الماضية!

- اقتصاديا: حصار غزة الذي يدخل عامه الثامن ألقى بظلاله السيئة والكارثية على كل مرافق القطاع: ماليا، تجاريا، معيشيا، زراعيا، صناعيا، والخطوة الموعودة ستضيف عبئا على أعباء الغزيين، لا يتوقع أحد كم سيكون حجمها، وما هي قدرتهم على تحملها، لاسيما وأن بعض التسريبات المتعلقة بالخطوة تناولت مختلف مجالات الحياة الغزية، حيث سيتم وقف كافة الخدمات المقدمة للقطاع من تنسيق للغذاء، ودفع مصاريف الكهرباء والمياه ورواتب الموظفين، ووقف الخدمات التعليمية والطبية، ووقف تصدير الوقود إليه بكافة أنواعه، ووقف إصدار أي جوازات أو أوراق رسمية صادرة عن السلطة الفلسطينية.

كما سيتم الطلب رسمياً من كل البنوك وقف كافة خدماتها وإغلاق أبوابها إلى إشعار آخر في قطاع غزة، كما هو الحال هذه الأيام بفعل عدم استلام رواتب موظفي حماس.

· حماس ..ماذا يا ترى فاعلة؟

ليس بالإمكان تناول موقف حماس –المسيطرة فعليا على قطاع غزة- من إمكانية صدور قرار يعلن غزة إقليما متمردا، دون التطرق –ولو سريعا- إلى حالة التخبط التي يحياها الفلسطينيون منذ "ورطة أوسلو"، وهي حالة عز نظيرها في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، رغم أن هناك إشارات بيضاء ناصعة تخللت هذا السواد المعتم، جاءت بفضل جيل كامل من المقاومين الذين تمردوا على قرارات الساسة، وتوجهات تجار الثورة، وانحرافاتهم في وقت لاحق.

وامتدادا لهذا التخبط، فقد صدق الفلسطينيون –معظمهم على الأقل- أنفسهم للحظة واحدة، واعتقدوا فعلا أن لديهم سلطة وحكومة وبرلمان، وباتوا يتغنون حقيقة بمفردات (معالي رئيس السلطة، دولة رئيس الوزراء، عناية السيد الوزير) وجميعهم بالمناسبة لا يجرؤ على مغادرة غزة أو الضفة إلا بإذن مباشر أو غير مباشر من إسرائيل.. سلطة بائسة للأسف!

كان لابد من هذه التوطئة عند الحديث عن موقف حماس المتوقع، وأراه من خلال قراءتي المتأنية والهادئة لسلوكها السياسي، سيأخذ الأبعاد التالية:

-        إعلاميا: الناظر لخطاب حماس الإعلامي خلال الفترة الماضية يرى أنها بصدد تفعيل هذا الخطاب، ورفع حدته باتجاه الأطراف المشاركة في هذا القرار- فيما لو صدر فعلا- بحيث لن تعفي أحدا من تبعات القرار، وآثارها الإنسانية الكارثية، ولعلي أقصد هنا أن حماس قد تذهب باتجاه قطع شعرة معاوية التي سيقطعها فعلا قرار من هذا النوع، تحديدا مع الرئيس عباس وحركة فتح، وصولا لمحاولة إحراج الأطراف العربية المجاورة التي لا تخفي حماس اتهامها لها بالمشاركة في الحصار والتجويع والابتزاز!

ولذا بالمناسبة، بالإمكان استشراف هذا الخطاب الإعلامي من جملة التصريحات الخطابية والتحركات الميدانية التي قامت بها الحركة مؤخرا في أنحاء مختلفة من قطاع غزة والخارج.

- سياسيا: مع فتور علاقات حماس بالمحور الإيراني السوري، المعروف أمريكيا وعربيا بـ"محور الشر"، فإن خطوة إعلان غزة إقليما متمردا سيجعل حماس أكثر التصاقا بذلك المحور، الذي يبدأ بطهران مرورا بدمشق، وصولا لبيروت، وانتهاء بغزة، لاسيما وأن هذه العواصم ستحاول أن تشكل البديل الجاهز لحماس في حال طبقت بحقها قرارات وعقوبات، الأمر الذي سيعني –شئنا أم أبينا- ابتعاد الحركة أكثر فأكثر من العمق الرسمي العربي، لاسيما الرياض والقاهرة!

- عسكريا: حماس المهددة بضربة إسرائيلية موجعة، تأمل إسرائيل وبعض حلفائها من الفلسطينيين والعرب –للأسف- أن تكون قاضية، يجعل الحركة في أهبة دائمة على مدار الساعة، حتى في ذروة التهدئة، وأظن الحركة ماضية في التعامل مع أي تبعات أمنية وعسكرية لقرار إعلان غزة إقليما متمردا بذات تعاملها مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، ولا أظن أن أيا من الجيوش العربية والأجنبية، ستكون متحمسة لإرسال جنودها ليلاقوا مقاتلي حماس الذين أبلوا بلاء حسنا في مواجهة الجيش الذي لا يقهر!

 

أخيرا....فإن إقدام السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير، وتحت أي ذرائع أو مبررات واهية، على إعلان مثل تلك الخطوة "المتهورة"، وأيا كانت مواقف الأطراف المختلفة من مثل هذه الخطوة، تأييدا ومعارضة، فإنه سيرسخ أكثر فأكثر حالة الانقسام الفلسطيني الحاصل، فضلا عن إضراره بأصحابه قبل غيرهم، وسيضع ثلة من الساسة الفلسطينيين الحاليين في موضع لم يتوقعوا في أشد كوابيسهم سوءا أن يجدوا أنفسهم فيه، صحيح أن المسئوليات تتوزع، وأن التعميم خاطئ، لكن ما دام أن لكل مجتهد نصيب، فإن لكل جواد كبوة، وما أكثر كبوات هؤلاء الساسة!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد