قطعت الإذاعة المصرية برامجها المُعتادة؛ وبدأ المُذيع بتلاوة البيان التالي: " أعلنت دار الإفتاء المصرية ثبوت هلال شهر رمضان المبارك ليكون غداً... أول أيام الشهر الكريم...". وما إنْ انتهى المذيع من تلاوة البيان حتى انطلق صوت الفنان محمد عبد المطلب مُغنياً: "رمضان جانا وفرحنا به.. بعد غيابه وبقاله زمان.. غنوا وقولوا شهر بطوله.. أهلاً رمضان رمضان جانا". هذا المقطع كان ولا زال يتكرر سنوياً؛ حتى ترسّخت أُغنية (رمضان جانا) في أذهان أجيال متعاقبة، لتصبح أيقونة رمضانية ونشيداً وطنياً لشهر رمضان، تتصدر أغاني الترحيب بالشهر الكريم؛ نظراً لبساطتها وانسيابها وعذوبتها، ولاحتوائها على ثلاثية الإبداع الغنائي شعراً ولحناً وأداءً، ولما تحمله من مشاعر ومعاني الحنين والشوق لرمضان، والفرحة والبهجة بقدومه، ولما تُثيره من شجَن وحزَن على ذكريات الطفولة وأيام البساطة، فقد تحوّلت الأُغنية إلى سيمفونية يعزفها زمن الجمال، وترنيمة تحوى ذاكرة الأيام، أيام اللعب بعد الإفطار بفوانيس الشمع المصنوعة من علب التنك الفارغة، وصوت المُسحّراتي قبل الفجر على إيقاع الطبلة مبتهلاً ومنادياً للسحور، و(لمة العيلة) حول طبلية الأكل انتظاراً لأذان المغرب.
سبق أُغنية (رمضان جانا) أُغنية كانت تفوقها شهرة، وهي (وحوي يا وحوي) للفنان أحمد عبدالقادر، المليئة بمشاعر الشوق لرمضان والفرحة بظهور هلاله "هلَّ هلالك والبدر أهو بان.. شهر مبارك وبقاله زمان.. محلا نهارك بالخير مليان.. محلا صيامك فيه صحة وعال". ولحق أُغنية (رمضان جانا) الكثير من الأغاني الجميلة المُرحبّة بشهر رمضان والمبتهِجة بقدومه والمُعبّرة عن معانيه وقيمه الراقية، مثل: مرحب شهر الصوم، أهو جه يا أولاد، هاتوا الفوانيس يا أولاد... فإذا ما وصلنا إلى العشر الأواخر من رمضان شرعت الإذاعة المصرية تبث أغاني لتوديع الشهر الكريم مُعبّرةً عن اللوعة والوحشة لفراقه، وسيدة هذه الأغاني (والله لسه بدري يا شهر الصيام) للفنانة شريفة فاضل، فيمتزج فيها شعوري الحزن والفرح لفراق رمضان واستقبال العيد، وأغنية (والله بعودة يا رمضان) للفنان محمد قنديل مُعبّراً فيها عن المعنى الحقيقي للصيام "ونصوم عن أخطائنا.. ونصوم عن أطماعنا.. مش بس عن الزاد"، وإذا ذهب رمضان فلتبق بركته كما تمنّى الفنان محمد رشدي في أغنية (يا بركة رمضان خليكي.. خليكي في الدار)، ويواسي الفنان محمد طه الناس على حزن فراق رمضان بفرحة العيد بعده في موّال (رمضان مروّح وجايب لنا عيده.. وفي آخره يا ناس بنفرح بيوم عيده)، ويودع الشيخ سيد النقشبندي شهر رمضان بابتهال ديني مفعم بالمشاعر الحزينة: " وداعاً أيها الشهر الحبيب.. وموعدنا إذا عشنا قريب.. ستوحشنا إذا ما الصبح نادى.. وتوحشنا إذا نادى المغيب".
الاحتفاء بالشهر الكريم عبر الأغاني الراقية ترحيباً وتوديعاً في النصف الثاني من القرن العشرين تلاشى مع مطلع الألفية الثالثة، وذهب مع الريح العقيم القادمة من عمق صحراء العرب القاحلة، المُحملّة برمال السفاهة العصرية والتفاهة الفنية، بسرعة فاقت سرعة صوت الحكمة والرشاد، لتضرب وجوهنا بدراما الإسفاف ومسلسلات الاستخفاف، المُسمّاة زوراً (الدراما الرمضانية) وبُهتاناً (مسلسلات رمضان)، وكان الأوْلى تسميتها بالدراما الشيطانية أو مسلسلات الشيطان؛ ذلك بأنَّ شياطين الفن من الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف الفن سموماً، فيقذفوا أسوأ ما في جوفهم من سفاهة وتفاهة، فيها كل شيء ما عدا القيم الأخلاقية، والرسائل الحضارية، والأهداف التربوية، والأفكار التنويرية، والحلول للمشاكل المجتمعية... وغايتها إلهاء الناس عن التمتع بالعبادة في رمضان، وإطفاء شعلة القيم والمعاني الرمضانية. ولتأكيد انحطاط الكثير من هذه المسلسلات نقتبس بعض عناوين المقالات التي نُشرت عنها: مسلسلات رمضان تدعو إلى الإسفاف وانحدار الأخلاق، دراما رمضان استخفاف بالعقول والقيم الاجتماعية، حينما يصبح الإسفاف فناً في رمضان، مسلسلات رمضان أوكازيون السخافة، دراما رديئة بمضامين قبيحة، مسلسلات التدمير الأخلاقي، دراما رمضان من تزييف الحاضر إلى تزوير التاريخ، من المسئول عن انحطاط الدراما الرمضانية؟!.
إضافة لآراء الكُتّاب فقد كان للنُقّاد رأي في تقييم الدراما الرمضانية، فأكد الكثير منهم إسفافها بما تلعب من دور سلبي في تشويه الأفكار وانحراف السلوك، ففي تقرير بعنوان (قراءة نقدية في مسلسلات رمضان 2020) سُجّل فيه رأي الناقد الفني المصري عصام زكريا في مُسلسلي: أم هارون، ومخرج سبعة، قال: "المقصود من هذا الجدل ليس عرض التاريخ من أجل التاريخ، إنما عرضه مغلوطاً من أجل الترويج للتطبيع مع إسرائيل... والتمهيد للتطبيع مع إسرائيل"، وفي تقرير سابق آخر بعنوان (الدراما الرمضانية ترسخ ظاهرة العنف) نشره موقع الخليج قال الناقد الفني اللبناني جمال فياض: "ما يحصل لا يعتبر علامة صحية في المجتمع، فهو استغباء للمشاهد... فهو لا يشاهد سوى مشاهد العنف الشديد والضرب والقتل... وتتركز مشاهدها على العنف والتضارب بالأيدي ويُروّج لها بشكل كبير". ومن الدراسات العلمية التي تناولت ظاهرة الدراما الرمضانية دراسة دكتوراه بعنوان (الممارسات الدرامية في المسلسلات الرمضانية المصرية ودورها في تشكيل سلوك الجمهور) للباحثة سحر مؤنس عيد في جامعة المنصورة، وقد اتخذت مسلسل (الأسطورة) مثالاً لأنه أكثر المسلسلات مشاهدة في موسم رمضان 2016، وقد خرجت بالعديد من النتائج أهمها أنَّ جرعات العنف الجسدي من ضرب وبلطجة وثأر، والعنف اللفظي من شتائم وإهانات وألفاظ بذيئة، تنتشر بنسبة كبيرة في مشاهد المسلسل وتؤثر على أفكار واتجاهات وسلوكيات الشباب بطريقة سلبية، كما أنَّ المسلسل يُقدم نموذجاً مشوّهاً للبطولة الشعبية يعتمد على البلطجة والفهلوة.
المسؤولون عن إسفاف معظم المسلسلات الرمضانية يبررون أعمالهم الدرامية الرديئة بنظرية أنَّ الفن مرآة الواقع بعجره وبجره، فيعيدوا إنتاج الواقع درامياً بشيء من المبالغة لزوم الإثارة والتشويق، فتُرَدُّ بضاعة المشاهدين المُزجاة إليهم بجرعة من التضخيم والتشويه، فتُطبع مشاهدها في عقولهم وقلوبهم، وتنعكس قيمها على أفكارهم وسلوكهم، خيراً أو شراً، كما يحمل بعضهم نظرية أنَّ الفن للفن، وما هو كذلك، إنْ يُريدون إلا هروباً من الواقع بهمومه وأحزانه، إلى راحة الترفيه ومتعة الجمال وسكينة الخيال، لحظات تُسرق من تغوّل الزمن، يرجع بعدها الناس أكثر هماً وحُزناً. وفي الحقيقة ليس من العيب أنْ يكون الفن مرآة للواقع، ولكن بشرط أنْ يُقدّم صورة صادقة للواقع ليرتقي به إنساناً ومجتمعاً وأمة، في فنٍ محوره الإنسان وروحه المجتمع وقضيته الأمة، ولا مشكلة في أنْ يكون الفن للفن، ولكن بشرط أنْ يلتزم بقضايا الإنسان والمجتمع والأمة، إنسانية الإنسان وحريته، وهموم المجتمع وطموحاته، وقضايا الأمة ولا سيما قضيتها المركزية فلسطين... وبذلك نحافظ على رُقي الأُغنية ونتخلّص من إسفاف الدراما، ونسمو بالفن والإنسان بعيداً عن قبضة الطين ومستنقع الرذيلة، وقريباً من نفخة الروح وسماء الفضيلة، وخصوصاً في شهر رمضان المبارك الذي يُعد فرصة للعبادة والعلم وتزكية النفس والسمو بالروح.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية