هذه الجولة تفترض وتشترط ـ إذا توخت الدقة والوضوح ـ مجموعة من الحقائق، وأخرى من الوقائع، ربما تصل إلى حدود المسلّمات، التي دونها يصعب، أو ربما يتعذر تحقيق أي من أهداف هذه الجولة.
في الواقع لا توجد أي مشاريع «شيعية» ونابعة من أيديولوجية شيعية خالصة معزولة عن المشاريع الفارسية القومية، وعن المصالح «العليا» للدولة الإيرانية في صيغتها القائمة.
وكل محاولة لفصل هاتين المسألتين ستقع حتماً في المحظور المنهجي الذي يؤدي بالضرورة إلى تشخيص الهدف والاستهداف ولكنه يضل الطريق ولا يتمكن من الوصول أبداً.
السؤال الأصعب هو: هل يمكن أن تنتشر وتنتعش هذه الأيديولوجيا بمعزل عن مركز قوي (الدولة الإيرانية)، وهل يمكن لهذا المركز أن يتمدد بمعزل عنها؟
الأيديولوجيا «الشيعية» ستبدو مجرد حالة تبشيرية محلّقة دون مشروع مدعوم من «المركز»، وسيبدو «مركز» كهذا صلفاً وعدوانياً واستفزازياً دون منظومة الأيديولوجيا التي تلعب دور البلدوزر في هذه الحالة.
حقق المشروع الفارسي اختراقاً استراتيجياً في منطقة الإقليم بدأ على هيئة مدّ ديني، وموجات متتالية من مظاهر التدين الوظيفي، وانتعشت حركات «الإسلام السياسي» بما فيها «السنّية» التي وجدت نفسها أمام تحديات جديدة تطالبها (أي تطالب حركات «الإسلام السياسي» السنّية) بمنازلة فكرية مباغتة، وبسلوك «ثوري» في مواجهة أنظمة الاستبداد، وفي مواجهة المؤسسات الدينية أيضاً، وفي مواجهة المشروع الغربي أيضاً.
وبالفعل شعرت «الأقليات» وهي في بعض البلدان أكثريات أو أقليات حاسمة ومؤثرة بالانتعاش السياسي، وتمت اختراقات كبيرة في العراق وسورية ولبنان، إضافة إلى بدايات تململ في العربية السعودية والبحرين، وتحول المشروع الإيراني إلى تهديد مباشر لبعض الأنظمة وإلى فرص جديدة لأنظمة أخرى (سورية مثلاً)، وإلى فرص تاريخية خاصة ونادرة غير محدودة على الإطلاق كحالة «حزب الله» في لبنان. وحالة «الحوثيين» في اليمن.
خلاصة الأمر هنا هي أن المشروع الإيراني (القومي الفارسي) المغطى بالأيديولوجيا «الشيعية»، والمستظل بها، والموظف لها قد حقق اختراقات إستراتيجية في واقع الإقليم، وأصبح الدور الإقليمي لإيران جزءاً مكوناً ومفصلياً في هذا الواقع.
المشروع القومي الفارسي هنا أصبح «موضوعياً» مشروعاً مجابهاً للغرب، ومجابهاً لاسرائيل ومتصدياً للنظام العربي التقليدي «السني» المعروف، أو هكذا أصبح يبدو على الأقل.
وحقيقة الصراع القائمة اليوم بين الغرب عموماً وإسرائيل خصوصاً من جهة وإيران وحلفها الجديد من جهة أخرى هو خوف كل طرف من أن يكون دور الطرف الآخر على حساب مصالحه، وربما على حساب بقائه ووجوده ومستقبله.
هنا لا بدّ من التعريج على الدور التركي الذي أراد الغرب أن يرى فيه البديل (البرغماتي والمستنير) عن التمثيل التقليدي للسنّة في هيئة النظام العربي «المعتدل»، أو الرديف على أقل تقدير. لم تنجح حتى الآن هذه المعادلة، ولكن الغرب لم ييأس من حلف تركي عربي في مواجهة إيران.
دخلنا في السنوات الأخيرة في أهم وأخطر فصل في هذه المجابهة لكامل مرحلة ما بعد سقوط صدام، والتي تتمثل في تحالف عربي سنّي «معتدل» ومهيمن مع إسرائيل ـ سراً أو علانيةً ـ اليوم (أو) غداً، بحرب مباشرة أو بالوكالة.
هذا هو بالضبط الواقع القائم اليوم، وهذا هو مسار الأحداث في المدى المنظور كله.
وفي ضوء ذلك يمكننا أن نبدأ الجولة.
ولأن المسألة طويلة ومركبة دعونا نلخصها على شكل نقاط بعينها:
أولاً، المشروع القومي الفارسي يتمدد، وقد تمدد بما يكفي لتأمين الدور الإقليمي لإيران، وبات من المستحيل تجاهله أو التعامي عنه، وأقصى ما يمكن أن يطرأ عليه من تعديلات هو تقليمه عند حدود ما وصل إليه وليس استرجاع المساحات التي سيطر عليها.
ثانياً، الحالة الوحيدة التي يمكن أن تغير من هذه المعادلة هي سقوط النظام الإيراني نفسه، إما بوساطة الحرب، أو بوساطة دعم حراك شعبي ضده في الداخل الإيراني لا يقوى النظام على سحقه.
إيران تعرف بالضبط هذه المعادلة، وتعرف أن دورها الإقليمي يساوي بقاء النظام نفسه، وحمايته المضمونة، ولهذا فإن تخلي إيران عن حلفائها هو من سابع المستحيلات، ومن يراهن على عكس ذلك عليه أن يفيق من غفوته بسرعة.
ثالثاً، إسرائيل تحرض باتجاه الحرب وتقبل ـ على مضض ـ بأقصى وأقسى العقوبات مؤقتاً.
النظام العربي يفضل الضغط، لأن الحرب قد تؤدي إلى دمار هائل، قد يطاله ويضعفه إلى أبعد وأخطر الحدود.
ثبت الآن أن الدولة الأميركية العميقة مع الضغط وليس الحرب، لأن فرصة الحرب تبخرت نهائياً مع سقوط ترامب والتي كانت مجرد احتمال فقط.
إيران تتصرف على هذا الأساس فهي تعرف أن فرصة إسرائيل في جرّ الولايات المتحدة لحرب ضد إيران فرصة معدومة.
إيران لا يهمها امتلاك السلاح النووي، لأنها ليست بحاجة له، وهي حققت من خلال قوتها العسكرية «التقليدية»، ومن خلال دورها الإقليمي الردع الكافي لمنع الحرب عليها، وهي بالتالي «مطمئنة» من هذه الناحية، وهي تناور على مقايضة عدم التصنيع العسكري النووي (وهو بضاعة وهمية) مقابل قبول وتقبل العالم لإيران المالكة والمتحكمة بالتكنولوجيا النووية للأغراض السلمية.
ولهذا لن تتنازل إيران عن هذا «الحق» لأنه سبيلها إلى الردع النهائي والحاسم، ووسيلتها للتنمية غير المقيدة بالضغوط والعقوبات.
وفي ضوء ذلك فإن إيران تفاوض وهي مرتاحة نسبياً إلى عدة اعتبارات مهمة.
الحلف العربي الإسرائيلي يبقيها في دائرة المشروعية السياسية لجهة «قوى المقاومة»، ويعزز من دورها الإقليمي، ويعطيها فرصاً جديدة وأدوات جديدة للضغط على المحيط العربي أكثر بكثير مما يوفر هذا الحلف للعرب من فرص الضغط على إيران، خصوصاً أن أميركا وأوروبا لهما حساباتهما الخاصة، وهي حسابات ليست متطابقة مع الحسابات العربية ولا الإسرائيلية.
أقصى ما تفكر به إيران من تنازلات هو «التزامن» بين بدء رفع العقوبات ورجوع إيران إلى مرحلة التخصيب حسب الاتفاق النووي.
باختصار إيران تعتبر نفسها منتصرة، وحققت الكثير مما كانت تصبو إليه، وكل الأطراف تم جرّها للعب في ملعبها. ولنا عودة.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية