تبدي حركة "فتح" مجدداً المسؤولية الوطنية التي طالما تحلّت بها، وذلك بمناسبة إجراء الانتخابات الفلسطينية العامة، ومن ثم الرئاسية، وبعد ذلك انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، وهي على غير ما تبديه معظم الفصائل الأخرى، بما في ذلك " حماس "، لا تبدو مهتمة أولاً وقبل كل شيء بفوزها بالأغلبية البرلمانية، بقدر ما تبدو مهتمة بإنجاح الانتخابات نفسها، حتى تحقق الأهداف التي يتطلع إليها الكل الوطني من وراء عقدها، وفي المقدمة منها بالطبع، المهمة الأسمى والأهم وهي مهمة إنهاء الانقسام البغيض، الذي كان قد تلا انتخابات المجلس التشريعي الثاني.
وحركة "فتح"، حتى وهي في المعارضة، نقصد حين خسرت الانتخابات السابقة، لم تسلّم بنتيجتها فحسب، بل سارع الرئيس الذي هو بالأصل فتحاوي، إلى تكليف "حماس" بتشكيل الحكومة العاشرة، ورغم أن الأمور تدهورت لاحقاً حتى وصلت إلى حد الانقلاب العسكري، ومن ثم الانقسام، ظلت "فتح" تمارس دورها المسؤول، حتى في قطاع غزة ، فيما بقيت "حماس" التي ظلت تحكم قطاع غزة ما بين عامي 2007-2021، تتصرف كمعارضة، ورغم أنه من الطبيعي أن يمارس من كان يجلس على مقاعد المعارضة، كل ما يمكنه أن يعجل من إجراء الانتخابات التالية، حتى يخسر خصمه مقعد حكمه وتحكمه، إلا أن "فتح" مارست ضبط النفس، وصبرت خمسة عشر عاماً، كاملة على إجراء الانتخابات السابقة، في حين كانت "حماس" تطالب في السنة الأولى فقط بحقها في قضاء الأربع سنوات، وهي عمر المجلس الذي فازت به، أو هي فترة التخويل الشعبي لها بتمثيله في الحكم.
ليس ذلك وحسب، بل إن "فتح" امتنعت عن ممارسة الحكم بشكل مباشر، في الضفة الغربية، حيث سلّمت الحكومة للتكنوقراط من المستقلين، خلال حكومتي كل من سلام فياض ورامي الحمد الله، لأن الأهم كان عندها هو التخفيف من شقة الخلاف الداخلي، ومنع مزيد من تدهور الأمور، حتى لا تصل إلى الفراق النهائي، وحتى لا يتحول الانقسام إلى انفصال بغزة، عن باقي الوطن الفلسطيني، وكان يمكن لحركة "فتح"، لو أنها لم تكن مسؤولة أكثر منها هي سلطة حكم، أن تترك المركب يغرق بمسؤولية حركة "حماس"، وتمارس دور المعارضة، التي لا هم لها سوى أن تنتقد عن بعد، تراقب وتترفع عن العمل الميداني وعن تحمل المسؤولية الوطنية، لكنها لم تفعل هذا، لأنها ما زالت وفية لمشروعها الوطني، الذي قادته على مدار أكثر من خمسة عقود متواصلة.
أما اليوم، ونحن بصدد إجراء سلسلة انتخابات متتالية، تبدأ بانتخاب المجلس التشريعي الثالث، فإن "فتح" لا تسارع إلى إطلاق حملتها الانتخابية، لأنه ليس الأهم عندها هو أن تفوز هي بالحكم، وهي حركة "شبعانة حكم" بالبلدي، ولا عقدة لديها في هذا الصدد، ولا تندفع إلى ميدان التنافس، بل تسعى إلى تأمين كل ما من شأنه أن يتحول بيوم الانتخابات إلى عرس وطني حقيقي، يعلن البشرى بإنهاء الانقسام أولاً، ثم بممارسة الشعب لحقه الطبيعي في ممارسة الحكم، بانتخاب ممثليه لفترة تشريعية جديدة، يجب ألا تتجاوز الأربع سنوات، حتى يستقر النظام السياسي الفلسطيني كنظام يرتكز إلى مؤسسات الحكم الطبيعية: التشريعية والقضائية والتنفيذية.
وحتى يتحقق الهدف الوطني المنشود، فإن "فتح" قد أخذت بعين الاعتبار ما حدث في الماضي كعبرة، ولكن ليس بدافع الانتقام مثلاً، وهي استوعبت طموح الآخرين من الفصائل في الشراكة في الحكم، لذا فإنها تذهب لانتخابات لا تريد منها أن تستأثر هي بالذات بالحكم، وهي بالطبع عبر تاريخها لم تفعل هذا، وإن كانت تحرص على التمتع بأغلبية الهيئات القيادية، لكن مقارنة مع "حماس"، فإنه يمكن القول: إن "فتح" لطالما أشركت الآخرين في حين احتفظت بالأغلبية والتي غالباً ما كانت (النصف+1)، في حين "حماس" لم تشرك أحداً، ولا حتى المستقلين ولا في هيئة حكم في مجلس بلدي.
أما العبرة فقد تمثلت بأمرين أساسيين هما: أولاً نظام الانتخابات الذي سارت عليه الانتخابات السابقة وفق مبدأ النظام المختلط (50% نسبي+50% دوائر) والذي سمح لـ"حماس" من خلال الفوز بأغلب مقاعد الدوائر أن تحقق أغلبية برلمانية اقتربت من ثلثي الأعضاء، في حين أنها في النسبي لم تتجاوز "فتح" كثيراً سوى بأقل من 5%. والثاني كان في تشتيت الصوت الوطني، خاصة أن الانتخابات جرت في ظل تنافس وطني/إسلامي شديد، حيث نافس الفتحاويون الذين لم يلتزموا بالقوائم المركزية قوائم الحركة، فكان أن سمحوا لقوائم "حماس" بحصد معظم مقاعد الدوائر.
هذه الانتخابات تجري في ظل النظام النسبي الكامل، ما يعني أن إحدى الكتلتين، مع إهمال وجود منافس حقيقي ثالث، قد تفوز بأغلبية بسيطة، لكنها لن تحقق فوزاً كاسحاً، وهي حتى إن كان بمقدورها أن تشكل الحكومة بمفردها، أو دون الكتلة الثانية بالحجم، فإنها ستواجه معارضة قوية، وحيث إننا كفلسطينيين، ما زلنا على طريق الاستقلال الوطني، أي أن المعركة مع الاحتلال تتطلب رص الصفوف، والتوحد ضده، لذا فإن ضمان وحدة القوى، إن لم يكن من خلال الذهاب للانتخابات بقائمة مشتركة، فمن خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية تالية للانتخابات.
خير ما يمكن الوقوف عنده في هذا السياق، هو ما أعلنه عضو مركزية "فتح"، حسين الشيخ ، الذي قال، أول من أمس، في اجتماع لكادر حركة "فتح" في القدس : إن "فتح" تسعى لتشكيل حكومة وحدة وطنية.. وهذا التزام فتحاوي، كما هو قناعة لدى الحركة التي طالما فكرت بالكل الوطني، كذلك الإعلان عن مبدأ عدم ترشح أعضاء الهيئات القيادية - "المركزية" و"الثوري" - وفي هذا كل الخير للحركة، لتضمن التجديد، ولت فتح أبواب الهيئات القيادية لمن ينال ثقة الشعب أولاً، ليكونوا مؤهلين لها، وليس العكس، كما حدث سابقاً حين سعى البعض لامتطاء ظهر الحركة للوصول للمناصب العامة، من مؤسسات السلطة، التشريعي والحكومة، وهكذا تمضي "فتح" كقائد للشعب الفلسطيني، وهي باتت منذ ظهرت قبل عقود مضت، صورته وجوهره، بحيث باتت عافية "فتح" هي عافية الكل الفلسطيني، ولا معنى للكيانية الفلسطينية دون أن تكون "فتح" هي المرادف الحقيقي لفلسطين.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية