القصد طبعاً أن مسألة الاتفاق من عدمه لا تحتمل المغامرات، ولا تقبل ترف التأجيل أو المماطلة والتسويف، على الأقل في مسألة الالتزام بعقد الانتخابات. ليس مهماً إذا اختلفتم على التحالفات، ونسب المقاعد أو أعدادها، بقائمة واحدة أو عدة قوائم.
المهم أن نتعلم كيف نختلف، وأن نتعلم كيف ننظم اختلافاتنا وخلافاتنا، وأن نُمَعير وسائل وآليات تنظيم الاختلاف.
من هذه الزاوية بالذات وتحديداً، فإن إجراء الانتخابات هو حجر الزاوية، ونقطة الارتكاز والانطلاق في آنٍ معاً.
لا قيمة فعلية لأي اتفاق أو توافق في هذه المرحلة إذا لم يكن «دستورياً»، وإذا لم يكن ذا مصداقية شرعية، وإذا لم يكن جزءاً عضوياً من سياق إعادة بناء نظام سياسي متكاملة، ولا مجال بعد صدور مراسيم الانتخابات للتراجع عن الانتخابات بعد كل الترحيب الذي عبر عنه الكل الوطني، وبعد كل التأييد الإقليمي والدولي الذي تم التعبير عنه بوضوح وصراحة.
ولهذا لا مجال إلا للاتفاق على إجراء الانتخابات.
كما أن عدم الاتفاق على إجراء الانتخابات سيعني نهاية كل الآمال بإنهاء الانقسام، والدخول في دورات من الصراع الداخلي المدمر.
والأرجح أن يتم الاتفاق على حلول وسط، أكثر أو أقل على محكمة الانتخابات، بل وحتى المحكمة العليا، أو أي قضايا تفصيلية أو إجرائية أخرى.
لو تم الاتفاق على ذلك فهذا بحد ذاته إنجاز كبير لاجتماع القاهرة بصرف النظر عن كافة القضايا الأخرى.
إنجاز كبير ولكن لا يكفي، ولا يحل كل المشكلات الراهنة والملحة العاجلة.
الإنجاز الثاني الكبير هو الاتفاق على نتائج الانتخابات، بصرف النظر عن التحالفات والقوائم والائتلافات.
المقصود بالاتفاق على النتائج عدة مسائل جوهرية، لعل أهمها هو القبول بها واحترامها.
هنا وفي هذه النقطة بالذات تكمن التفاصيل، والشيطان يكمن في التفاصيل كما نعرف جميعاً.
القبول بالنتائج واحترامها يعني ليس من بين ما يعنيه، وإنما أول ما يعنيه حق القائمة التي تفوز بالأغلبية باستلام مقاليد الحكم بالكامل.
فإذا فازت قائمة فتح ومعها حلفاؤها فمن حق فتح في هذه الحالة أن تتسلم هذه المقاليد في كل المحافظات، وأن تمارس سلطتها كاملة على كل مؤسسات الحكم وأجهزتها، وأن تخضع هذه المؤسسات والأجهزة لسلطتها الواحدة والموحّدة، وكذلك الأمر بالنسبة للجميع.
لن يقبل الشعب الفلسطيني من أحد، كائناً من كان، بأن تأتي فتح أو حماس أو اليسار وتعترض على تسليم هذه المقاليد وبالكامل.
لهذا فإن عدم تحديد هذه المسائل سيؤدي حتما إلى تحويل نتائج الانتخابات نحو عملية شكلية، ليس بمقدورها لا إنهاء الانقسام ولا غيره، إن لم نقل إنها يمكن أن تؤدي، بل والأرجح أن تؤدي إلى نتائج عكسية.
ولهذا أيضاً فإن اجتماعات القاهرة لن تكون ذات شأن جوهري إذا لم تحسم هذه المسائل وبأدق التفاصيل.
هناك عشرات المخارج والحلول، منها على سبيل المثال الاتفاق على عدم تفرد قائمة بالسلطة حتى ولو حصلت على الأغلبية، أو أن يتم الاتفاق على أن تشكل الحكومة حسب الأصوات التي حصلت عليها فيما إذا أرادت المشاركة.
هذه الأمور يجب ألا تترك للتفاسير والتأويلات، وإنما للتحديد والتوثيق المصور بالصوت والصورة إذا لزم الأمر كما أن القبول بالنتائج واحترامها يعني أن المجلس التشريعي هو وحده صاحب الحق الحصري في التشريع للسلطة الوطنية، وفي المحاسبة والمراقبة وليس لأي جهة أخرى.
هنا أيضاً نحتاج إلى وضوح تام.
التشريع للسلطة والمحاسبة والمراقبة يعني إعطاء الثقة من عدمها، ويعني حق الإطاحة بها وإسقاطها، ولكنه يعني أيضاً توضيح العلاقة القانونية الملموسة مع سلطات الرئيس، أو مع كامل مؤسسة الرئاسة.
فهل الحكومة خاضعة بالكامل من حيث قرار تشكيلها، ومن حيث مرجعيتها، ومن حيث إسقاطها أو عدم الثقة بها لقرار المجلس التشريعي أم أنها خاضعة للرئاسة هنا وللمجلس هناك، أو أن سلطة المجلس التشريعي كلها لا تكتمل إلا إذا كانت جزءاً من سلطة المنظمة ومؤسساتها بما في ذلك رئيس المنظمة ومجلساها الوطني والمركزي ولجنتها التنفيذية؟
لا قيمة عملية للقول بقبول نتائج الانتخابات دون التحديد الدقيق لكل هذه العلاقات والترابطات، ودون الاتفاق والتوافق عليها إذا كنا نريد فعلا إعادة بناء النظام السياسي، وليس «لفلفة» الأزمات التي عصفت بهذا النظام، وما زالت تعصف به، ولم تزل تهدد استقراره ورسوّه على قواعد صلبة وثابتة.
البعض يعتقد أن سلطة المجلس التشريعي تؤهله إلى أبعد من مجرد الرقابة والمحاسبة والتشريع للسلطة السياسية، والبعض يتصور أن الحكومة التي تحظى بثقة المجلس تتحول إلى حالة مقدسة، أو حكومة ربانية.
البعض الآخر بالمقابل يرى فيها سلطة محدودة للغاية وتتعلق بالسياسات الخدماتية النابعة من طبيعة دور الحكومة، ومن طبيعة المجلس التشريعي والذي هو جزء لا يتجاوز الثلث من البرلمان الوطني الممثل في المجلس الوطني.
في مطلق الأحوال لا يمتلك المجلس التشريعي خارج مهمته المحددة في النظام الأساسي حق تغيير طابع النظام السياسي وقواعده الرئيسة، وهو صاحب حق كامل في الرقابة والمحاسبة على أداء الحكومة وسياساتها.
دون أن نعيد التوافق التفصيلي على هذه التداخلات والترابطات سنواجه من الأزمات ما لا يعد ولا يحصى.
وفي ضوء كل ذلك فالانتخابات ليست مسألة ترشيح وترشح وانتخاب، ولا هي فائز ومهزوم، ولا هي بالمطلق عدد المقاعد والأصوات.
هي كذلك عندما يكون الوضوح سيد الموقف، والدقة والملموسية لا تقبل التفسيرات والتأويلات الحزبية أو الفصائلية، ولا تؤدي إلى الأزمات السياسية التي مررنا بها.
وعندما نؤمّن الاتفاق أو التوافق على كل ما سبق، وعلى قضايا أخرى مرتبطة ووثيقة الصلة بكامل هذا السياق يصبح الاتفاق على القوائم ممكناً وصحياً وآمناً أيضاً.
ولأن موضوع القوائم سيطول شرحه، ولأن حركة تشكيل القوائم «مجمّدة» إلى حين الإفراج عن التوافقات المنتظرة من اجتماعات القاهرة، فليس ممكناً الدخول في أولوياتها وأفضلياتها، سلبيات بعضها وإيجابيات بعضها الآخر.
لكن المؤكد ومنذ الآن أن القائمة الواحدة الشاملة هي أسوأ الخيارات، لأنها ستحول الانتخابات إلى انتخابات شكلية بما يشبه التزكية، وستبدو الأمور وكأنها من قبيل التحصيل الحاصل، ما سيهزّ من ثقة الناخبين، وما سيؤدي إلى عزوف كبير عن المشاركة فيها، إضافة إلى الظلال التي ستلقى في وجه هذه الانتخابات وحقيقة ديمقراطيتها ومصداقيتها.
وعند الكثير من الناس ستبدد القائمة الشاملة المشتركة انعكاساً وتخوفاً من السقوط من جهة وحماية «شرعية» لمن لا يمكنهم النجاح إلا بهذه القائمة.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية