يُحكى أنَّ مهندساً زراعياً يعمل في إحدى قرى صعيد مصر، كان عائداً بالقطار إلى القاهرة في رحلة تستغرق ساعات، وكان بجواره فلاح مُسن يضع تحت رجليه كيساً كبيراً، لاحظ المهندس أنَّ الفلاح طوال الرحلة يقوم بهز وتقليب الكيس كل ربع ساعة تقريباً، تعجّب المهندس من ذلك، ودفعه حب الاستطلاع أن يسأل الفلاح في نهاية الرحلة عما بداخل الكيس وسبب هزه وتقليبه، فردّ عليه الفلاح أنَّ بداخل الكيس فئران اصطادها من الحقول، وأنّه ذاهب للقاهرة لبيعها لأحد مراكز الأبحاث، وعن سبب هزها وتقلبيها أضاف "شوف يا بني لو تركتهم ربع ساعة راكزين حيرتاحوا، وكل واحد هيحفظ مكانو ويأمن ويستأنس، فينسى صحابو اللي حواليه، وهيبتدي يقضم ويُخرم الشوال اللي همَّ فيه، وأفضل كدة لغاية ما أوصل بسلام".
سياسة إلهاء الفئران عن هدفها الأساسي بالخروج من الكيس التي كان يتبعها الفلاح، كان يمارسها سجّان الاحتلال معنا كسجناء فلسطينيين في معتقل النقب الصحراوي، فعندما كنّا نُعلن عن الاضراب عن الطعام ضد إدارة المعتقل للمطالبة بحقوق أساسية للأسرى والمعتقلين، كانت إدارة المعتقل تلجأ إلى مصادرة حقوق اُنتزعت سابقاً بالنضال والجوع من السجّان، مثل إيقاف الزيارات بين أقسام السجن، وبإيقاف دخول الجرائد، وسحب طاولات التنس، وإلغاء زيارات الأهل وغيرها، لتجبر الأسرى والمعتقلين على المطالبة بها مُجدداً عبر مفاوضات طويلة ومُملة، ليكونوا قد نسوا في نهايتها مطالبهم الأساسية التي أضربوا عن الطعام من أجل تحقيقها، وكانت سياسة الإلهاء تنجح أحياناً في صرفنا عن مطالبنا الأساسية كأسرى ومعتقلين.
أُلهية السجّان الإسرائيلي داخل السجون مارسها الكيان الصهيوني مع الشعب الفلسطيني، استطاع بواسطتها إنجاز أهداف المشروع الصهيوني بالسيطرة على كل فلسطين، فعندما احتلوا أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين، وأعلنوا قيام دولة (إسرائيل) عام 1948م، كان هدف الشعب الفلسطيني تحرير فلسطين المُحتلة عام النكبة ، وأنشأت حركته الوطنية منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م من أجل هذا الهدف، وعندما احتلت (اسرائيل) ما تبقّى من فلسطين عام 1967م (الضفة والقطاع)، تحوّل الهدف عند المنظمة بعد مسيرة ترويض طويلة إلى تحرير الضفة والقطاع التي تُمثل أقل من ربع فلسطين الانتدابية، وبعد اتفاقية اوسلو عام 1993م تحوّلت إلى أراضٍ مُتنازعٍ عليها، وأُدخل الشعب الفلسطيني إلى أُلهيات صُنعت على عين الاحتلال، تدور حول السلطة، وصلاحياتها وإدارتها وتقاسمها وانتخاباتها... تحت الاحتلال والحصار، بعيداً عن أهداف الشعب الفلسطيني الأساسية بإنجاز التحرير والعودة والاستقلال.
صناعة الملهاة تقوم على أساس إلهاء الشعب عن إنجاز هدفه الوطني والمطالبة بحقوقه الأساسية، وهي سياسة استعمارية واستبدادية يمارسها المحتلون والمستبدون، تنبّه إليها الفيلسوف الأمريكي المناهض للإمبريالية والصهيونية نعوم تشومسكي في كتابه (أسلحة صامتة لحروب هادئة)، فذكر عشر استراتيجيات للتحكم في الشعوب، أولها استراتيجية (الإلهاء)، وجوهرها إلهاء الشعوب عن أهدافها الحقيقية بعشرات الأُلهيات الجزئية التي تبقيه مشغولاً باستمرار، دون أن يكون له أي وقت للتفكير والعمل في قضيته الأساسية، ويقول: "اجعل الشعب منشغلاً منشغلاً منشغلاً، دون أن يكون له وقت للتفكير، وحتى يعود للضيعة مع بقية الحيوانات".
صناعة الأُلهية ذكرها فيلسوف الثورة الإيرانية علي شريعتي في كتابه (النباهة والاستحمار) عندما فسّر معنى الاستحمار بتزييف وعي الشعوب لحرمانها من حقوقها، وبتجديده اتجاهين للاستحمار هما : التجهيل والإلهاء، والتجهيل يعني "تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة، أو سوق الأذهان إلى الضلال والانحراف"، والإلهاء يعني "إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية البسيطة اللا فورية، لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية والحياتية الكبيرة الفورية"، ويُفسّر ذلك بقوله: "إنّه لمن سوء الحظ أن لا تدرك ما يُراد بنا، فيصرفوننا عما ينبغي أن نفكر فيه، من مصير مجتمعنا، أو أفكر فيه أنا مع مصيري كإنسان، إلى أن نفكر في أشياء تحسبها راقية جداً وعظيمة ومشرفة، فيصيبون الهدف دون أن نشعر".
سياسة الإلهاء أطلق عليها المُفكر الجزائري مالك بن نبي (طريقة التجميد)، فذكر في كتابه (الصراع الفكري في البلاد المُستعَمرة) أنَّ الاستعمار يلجأ لإلهاء الشعوب عن أهدافها إلى طريقة التجميد التي تُطبق في جبهة القتال لتجميد قوات العدو عند نقطة معينة، ويمارسها الاستعمار كسياسة تُبقي الشعب يدور في حلقة مُفرغة بعيداً عن هدفه الأساسي، وهي تشبه مصارعة الثيران، عندما يُلوَّح المُصارع بمنديل أحمر للثور، فيقوم الثور بالهجوم على المنديل بدلاً من الهجوم على المُصارع مرات عديدة حتى تُستنزف قواه وينهار، ويضيف مالك بن نبي "فهو يستمر إذن (الاستعمار) في التلويح بالمنديل الأحمر (هدف وهمي)، حتى لا تكون للشعب المُستعمر فرصة يتدارك فيها، ويفكر في أمره، وأن ينظر إلى مشكلاته بمنطق الفعالية، طبقاً للأُسس السياسية العلمية، وهكذا يجمد الاستعمار القوات التي تناضل ضده عند نقطة معينة".
ولكي لا تكون الانتخابات ملهاة جديدة للشعب الفلسطيني، تحرف بوصلة مشروعه الوطني عن أهداف التحرير والعودة والاستقلال، وتُغرق سفينة حركته الوطنية في تفاصيل تقاسم وإدارة سلطة تتعايش مع الاحتلال، يجب أن تكون الانتخابات مدخلاً لإقامة نظام سياسي وفق استحقاقات مرحلة التحرير الوطني، القائمة على ركيزتي الصمود والمقاومة، ويخدم أهداف المشروع الوطني بالتحرير والعودة والاستقلال، ويفصل بين السلطة والمنظمة على أساس التمايز والتكامل، ويُحدد وظيفة السلطة بتعزيز صمود الشعب في فلسطين المُحتلة، ووظيفة المنظمة بقيادة الحركة الوطنية للشعب الفلسطيني في داخل فلسطين وخارجها.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية