في هذه الأيام وبالذات في أزمة ال كورونا المستفحلة في إسرائيل وفشل الحكومة الإسرائيلية في معالجة الأوضاع الناجمة عن انتشار الجائحة، على الرغم من أن الحكومة التي انشأها بنيامين نتنياهو مع شريكه زعيم «أزرق- أبيض» بيني غانتس كانت حكومة طوارئ تركز على التصدي للجائحة، تبرز مشكلة اليهود الأصوليين مع الدولة ومؤسساتها وقوانينها. ويظهر بصورة واضحة الانقسام الداخلي العميق والخطير الذي يصل إلى مستوى التهديد الاستراتيجي، بل أن بعض الإسرائيليين يذهب بعيداً بوصفه كتهديد وجودي. ولخص الكاتب ب. ميخائيل مأساة اليهود عبر التاريخ في موقف الحاخامات من الحكم منذ الممالك القديمة وحتى الكوارث التي ألحقتها باليهود ثورتا باركوخبا والحاخام عكيفا. (مقال ب. ميخائيل، «هآرتس» 26/1/2021). وتتبدى المشكلة بعدم انصياع الأصوليين لإجراءات الوقاية من «الكورونا» بلبس الكمامات والتباعد الاجتماعي والالتزام بالإغلاق الذي تفرضه الدولة.
منذ بداية أزمة «الكورونا» أبدى «الحريديم» الاصوليون رفضهم للتعليمات الصادرة عن الحكومة وفي أكثر من مناسبة حصلت صدامات عنيفة بينهم وبين الشرطة الإسرائيلية، وقاموا بتظاهرات وأغلقوا شوارع ومارسوا حياتهم الطبيعية خلافاً لباقي التجمعات السكانية الأخرى التي التزمت بصورة أو بأخرى بقرارات الحكومة. وما يثير حفيظة الإسرائيليين هو ليس فقط عدم التزم الاصوليين وتعريض صحة الجمهور بصورة عامة للخطر والتسبب في فرض المزيد من الإغلاقات، بل أيضاً التسامح الذي تبديه الشرطة تجاه خروقاتهم بأوامر من رئيس الحكومة ووزير الأمن الداخلي. وهذا يحدث لأسباب انتخابية، فهؤلاء يمثلون الشريك الرئيس لنتنياهو في كل حكوماته وبدونهم لا يوجد له أدنى أمل في تشكيل حكومة.
غير أن الفضيحة التي تهز صورة نتنياهو وتظهر مدى الأزمة الداخلية في إسرائيل هي خروج عشرات آلاف الأصوليين في جنازتين لاثنين من الحاخامات الكبار الذين توفوا جراء الإصابة بـ «الكورونا» في القدس ، حيث خرجت الجموع الكثيفة بدون اتباع أي من إجراءات الوقاية، فلا كمامات ولا تباعد اجتماعيا ولا احترام لأية قواعد في ظل عجز تام للشرطة لفعل اي شيء ضد هذا الخرق الفاضح لقرارات الحكومة التي تفرض اغلاقاً على كل إسرائيل من مساء يوم الخميس (7/1/2021) وجرى تمديده حتى صباح يوم الجمعة القادم. ويرى الإسرائيليون كيف تقوم الشرطة بتحرير مخالفات يومية لكل من يُضبط مخالفاً لتعليمات الإغلاق في مختلف المدن والقرى والتجمعات، وكيف تتدخل الشرطة هناك باستثناء التجمعات الأصولية التي فشلت فيها الشرطة في تطبيق النظام بدءاً من إغلاق المدراس الدينية وفرض الالتزام بالإجراءات الصارمة المعلنة.
موضوع عدم التزام الأصوليين بتعليمات الدولة فتح من جديد العلاقة بين مؤسسات الدولة ومجتمع «الحريديم» وكيف ينظرون لهذه المؤسسات. ففي الحقيقة لا يتعامل الأصوليون مع إسرائيل كدولة اليهود، لأنه حسب معتقداتهم تقوم دولة اليهود عندما يأتي «المشيح» الذي يوازي المسيح والمهدي المنتظر. وهو الذي يجمع اليهود ويقيم المجتمع الديني الطاهر الذي يريده الرب. وكل ما قامت به الصهيونية هو تحريف وتزوير لإرادة الله. هذا عدا عن كون دولة إسرائيل بالأصل دولة علمانية لا تراعي قواعد التوراة و تعاليم «التناخ» التي تفسرها حسب وجهة نظر الحاخامات. وهم ينظرون بعدائية للدولة ويستثمرونها فقط لتغطية مصاريفهم وبالذات مصاريف تعليم التوراة في المدارس الدينية. هم أيضاً ينقسمون إلى مجموعات شرقية وغربية وفي كل مجموعة هناك مجموعات وأكثرهم تشدداً جماعة «ناطوري كارتا» التي لا تعترف بإسرائيل وتناصبها عداءً شديداً ويعتبر أعضاؤها أنفسهم فلسطينيين ويقبلون العيش تحت كنف الدولة الفلسطينية وليس إسرائيل المخالفة لإرادة الرب.
وموقف الأصوليين يختلف عن موقف التيار الديني- القومي الذي يحاول الجمع بين الدين والقومية المتطرفة التي تصل إلى مستوى العنصرية والفاشية. فالأخيرون يريدون هدم المسجد الاقصى ببناء الهيكل الثالث مكانه ويكثرون من زياراتهم إلى باحة الأقصى وأداء الصلوات واستفزاز الفلسطينيين، بينما موقف الأصوليين مختلف تماماً تجاه المكان، فهم يعتبرونه مقدساً وطاهراً ولا يجوز صعود اليهود إليه لأنهم يدنسونه، وهناك فتوى من أكثر من مئة حاخام تحرم دخول اليهود للحرم القدسي. وحسب اعتقادهم فإنه الله هو يحدد بناء الهيكل وهو ينزله من السماء في المكان والزمان اللذين يختارهما دون علاقة برغبة البشر. ومع ذلك ظهر تطرف في الموقف الأصولي تجاه الفلسطينيين في الفترة الأخيرة وأصبحوا أقرب إلى اليمين المتطرف بسبب وجود أحزابهم الرئيسية في حكومة نتنياهو وخاصة «شاس» و»يهودوت هتوراة»، وعلى سبيل المثال تمثل قاعدة حركة «شاس» اليهود من أصول شرقية وبشكل خاص عربية الذين بغالبيتهم ينقسمون بشكل رئيسي بين مؤيدين لحزب «الليكود» ومؤيدين لحركة «شاس».
ليس واضحاً كيف ستتعامل الدولة مع تحدي الأصوليين للدولة، ولكن هذا يعتبر تحدياً كبيراً لأي حكومة، فعدد الاصوليين يزداد بوتيرة عالية ونسبة التكاثر لديهم تصل أحياناً إلى 7% وعددهم فاق المليون من أصل حوالي 6 ملايين وثمانمائة ألف يهودي سكان إسرائيل. ومع هذه الزيادة المطردة والسريعة سيتحكمون بالقرار في الدولة دون أن يعملوا وينتجوا، فهم يكرسون وقتهم لتعلم التوراة ويرفضون الخدمة في الجيش ولا يعترفون بسيادة الدولة. وفتوى الحاخامات لديهم أهم بكثير من أي قانون أو مرجعية خاصة بمؤسسات الدولة. فهل يصبح هذا الصراع الداخلي هو الذي يهدم إسرائيل من الداخل؟

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد