لا تشبه انطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في الفاتح من كانون الثاني 1965 أي انطلاقة لأي من الفصائل الأخرى، التي لا تزال تتقدم في السن، وبعضها يتمتع بحيوية عالية. كانت الجامعة العربية قد اتخذت قراراً قبل عام من انطلاقة فتح يقضي بتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وكلفت المرحوم أحمد الشقيري برئاستها والذي باشر بعقد المؤتمر الوطني الأول، والإعلان عن تشكيل جيش التحرير الفلسطيني.


وحينذاك أيضا كانت حركة القوميين العرب، موجودة وقوية ولها امتدادات واسعة في الوطن العربي بما في ذلك فلسطين، وإلى جانبها كان الحزب الشيوعي الفلسطيني موجوداً وأيضاً كان حزب التحرير الإسلامي، وحركة الإخوان المسلمين.


في ذلك الوقت كان شعار حركة القوميين العرب «فوق الصفر وتحت التوريط»، بمعنى عدم الاندفاع، نحو تصعيد الصراع مع الاحتلال إلى الحد الذي يورط نظام الزعيم العربي القومي الراحل جمال عبد الناصر، في حرب ليس مستعداً لها بعد.


سقف الحركة الوطنية الفلسطينية منذ ما بعد النكبة حتى انطلاقة حركة فتح، كان المشروع الناصري التحرري، مع مشاغلات كفاحية ذات أبعاد عملياتية عسكرية محدودة ولا يمكن احتساب شهدائها، بأنهم الأوائل على طريق اندلاع الثورة الفلسطينية المعاصرة لأن السياق العام للعمل الوطني والقومي العربي آنذاك، لم يكن في وارده تفجير ثورة فلسطينية مبادرة.


أبدعت حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»، حين أعلنت ضرورة تحمل الفلسطينيين المسؤولية الأولى، وبأن تكون طليعة النضال الفلسطيني والعربي لتحرير فلسطين واعتماد الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية لتحقيق ذلك.


لم يتوقف الإبداع عند ذلك الإعلان، وإنما كان في الأساس أن من بادروا لتأسيس الحركة، كانوا شباباً موظفين في دول الخليج العربي، وكانوا يعيشون حياة أفضل من حياة اللاجئين الفلسطينيين الذين اعتمدوا على ما تقدمه وكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين « الأونروا ».
ربما كان هذا هو الدرس الأول، والمهم الذي يجب على شباب فلسطين اليوم تمثله لانتزاع دورهم وحقهم في قيادة المرحلة.


لم يقتصر الأمر على حركة فتح، وإنما كان الشباب هم المبادر لتأسيس معظم إن لم يكن كل فصائل المقاومة من اليمين إلى اليسار إذ لم تكن أعمارهم تتجاوز الثلاثينيات.


البدايات كانت سرية وصعبة، فلقد عانت المجموعات الأولى التي تشكلت من الملاحقة، والسجون والمعارضة الملموسة القوية من قبل الحركات والأحزاب التي كانت موجودة في تلك المرحلة، ومن النظام العربي عموماً.


وإذا كانت الأحزاب والحركات الفلسطينية آنذاك تلتزم إيديولوجيات معينة قومية أو اشتراكية أو إسلامية فإن حركة فتح، اختارت أن تكون حركة وطنية لا طبقية ولا إيديولوجية وصاحبة فكرة ومبادرة فلسطينية خالصة تجمع في داخلها كل ألوان الطيف السياسي والإيديولوجي، وشرط الانتماء الوحيد لها، هو الالتزام بالنضال لتحرير كل فلسطين، والاستعداد للتضحية من أجل ذلك.


هذا هو الإبداع العميق، الذي ينطوي على رؤية سليمة لطبيعة الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي.


ربما ما كان لحركة فتح وفق تلك المحددات وذلك الزمان بظروفه، أن تصبح حركة الشعب الفلسطيني لولا أن إسرائيل بادرت وعلى نحو مفاجئ، بشن حرب حزيران العام 1967، التي وجهت ضربة قاسية لمشاريع ذلك الزمن.


اندلعت الثورة المسلحة إثر ذلك على أنقاض وضع عربي شبه منهار، وانعدام المراهنة على الجيوش العربية كأداة رئيسة وأساسية لهزيمة المشروع الصهيوني، وأكدت في الوقت ذاته، أن عملية التحرير تستدعي أن يتقدم الفلسطيني الصفوف، وأن يغير من طبيعة أدوات وأشكال الصراع.


كان من الطبيعي آنذاك، أن تتقدم حركة فتح، صفوف الحركات والأحزاب والجبهات التي انطلقت في إطار الثورة المسلحة، وأن تستقطب مئات وآلاف المقاتلين، وأن تحظى بدعم واسع شعبي في الأساس، وبالتالي أن تتبوأ مركز قيادة الثورة والشعب الفلسطيني.


تعززت قوة الحركة بعد معركة الكرامة، ولاحقاً حين تسلمت راية منظمة التحرير الفلسطينية، التي لم تعد محكومة بدوافع وجهات تأسيسها فتحولت هي الأخرى، لتحصل على الجنسية الفلسطينية الخالصة، ولأن تقود نضال الشعب الفلسطيني، عبر ائتلاف واسع ضم كل فصائل الثورة، دون التشكيك في دورها التاريخي من قبل أي فصيل.


منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح، شكلتا التوأم التاريخي، الذي يجسد هوية الشعب الفلسطيني، ويضع قضيته على طاولة الاهتمامات الفلسطينية والعربية والدولية خصوصاً حين اعترف بها العرب بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.


ثمة ما يدعو للأسى، حين تجد حركة فتح، من يحتفل بذكرى تأسيسها كل عام، وإن كان على نحو أقل مما تستحقه هذه الذكرى، بينما لا تجد المنظمة من يهتم بتأسيسها على النحو الذي تستحقه ذكراها السنوية.


لسنوات كانت أطراف كثيرة تنكر بأن حركة فتح، هي الحركة التي تستحوذ على قلوب الأغلبية الساحقة من الجماهير الفلسطينية، لكنها كانت كذلك إلى أن واجهت الحركة الكثير من الأزمات، وعديد الانشقاقات فضلاً عن صعوبة الظروف العامة للنضال الوطني والعربي الفلسطيني.


انتابنا والكثيرين خوف، غير مبرر، حين قامت حركة حماس بالانقلاب والاستيلاء على السلطة في قطاع غزة ، العام 2007، حيث سيطرت علامة شك كبيرة على إمكانية استمرار حركة فتح بذات القوة التي عرفت بها، بدت الحركة وكأنها نظام هش قابل للتفكيك إثر وجود قوة كبيرة بمستوى حركة حماس، قادرة على الإطاحة بالحركة والسلطة، لكن فكرة الحركة ظلت حصينة، رغم تراجع الحركة من حيث القوة، والتأييد الشعبي والدور والمكانة بين الفلسطينيين.


حين نتأكد من أن القلاع تسقط من داخلها، فإن القلعة الفتحاوية لا تغادر هذا السياق، فلقد تراجعت قوة الحركة، بسبب أزماتها الداخلية وانقساماتها، وطريقة إدارتها للسلطة والمنظمة، وكان الاختبار الأول قبل الانقلاب الحمساوي، خسارتها الفادحة في الانتخابات التشريعية العام 2006.


بعد كل هذا الوقت ثمة مخاوف حقيقية، من أن تتراجع مكانة الحركة في الانتخابات المقبلة، حتى لو كان من الممكن أن تجتاز امتحان الانتخابات بفوارق طفيفة.


كان الأمر يحتاج إلى مراجعة نقدية عميقة، لم تشهدها حركة فتح حتى الآن، مع أن أفكارها الأساسية التي قامت عليها لا تزال صالحة، إلا أن الأمر يتعلق بالسلوك والرؤى وأولويات الاهتمام، والدور.


لا تزال الحركة تعاني من الانقسام، ومن التزاحم، حول المواقع، ومن تحمل المسؤولية عما يصيب السلطة والمنظمة، ما يثير المخاوف مجدداً لدى طيف واسع من الوطنيين الفلسطينيين وحتى لدى فصائل الثورة الفلسطينية المعاصرة.


ومرة أخرى ينبغي على قيادة حركة فتح أن تصدق، وتقتنع بأن سلامة الوطن وقوة النضال الفلسطيني، هما من سلامة وقوة حركة فتح.
الصراع الطويل مع الاحتلال، يستدعي إحياء الفكرة الوطنية، فلا مجال للأفكار الإيديولوجية، لأن تحقق أهداف الشعب الفلسطيني، رغم أنها جزء أصيل من المجتمع ومن حركة النضال الوطني والقومي العربي. فهل تصحو قيادة الحركة لاستعادة دورها، وإن كان لذلك ثمن؟.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد