قيل قديما: الشتاء عدو الفقراء. وان حضر وهو عدو فتأهبوا له أهبته. فهو شديد البرودة وأبرد فصول السنة وأكثرها سقوطاً للمطر والثلج في بلادي. واليوم الشتاء عدو للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين حيث تتفاقم معاناتهم، ويتسع جرحهم ويتعمق وجعهم، ويزداد القلق عليهم. فهم لا يملكون ما يقيهم مطر الشتاء وبرد كانون، ولا يستطيعون توفير ما يحميهم أمراض الشتاء وأكثرها انتشاراً هذه الأيام. هذا حالهم وتلك أوضاعهم. ما داموا خاضعين للحجز وحيثما كان مكان الاحتجاز. في شمال البلاد وأواسطها، أو في جنوبها بصحراء النقب والتي يقبع في السجون والمعتقلات هناك قرابة نصف إجمالي الأسرى.
شتاء عدو لهم، وأمطار غزيرة تُغرق بعضهم ورياح عاصفة تؤرقهم، وبرد قارس يُؤذي جميعهم وينخر عظامهم، وأمراض تؤلم الشاب والكهل وتوجع الشيخ والهرم، وعواصف شديدة ومنخفضات جوية متفرقة تفاقم مأساتهم، وتزيد أوضاعهم الصحية بؤساً وتعقيداً. ولا أظن أن أحداً منا وقد عاش مثل هذه الأجواء الباردة داخل غرف السجون أو في خيام المعتقلات، يمكن له أن ينسى تلك الأيام الشتوية. بل أحيانا يعود البعض إلى الوراء سنوات وعقود ويضطر لاستحضار أيام ما كنا هناك، وحيثما يقبع اليوم آلاف الأعزاء، وكيف كان الشتاء لنا عدواً، ونحن مكبلين بالأصفاد. فيا أيها الشتاء: فلتغادر رفقاً بهم ويا برد كانون ارحم ضعفهم وقلة حيلتهم. فما عاد بمقدور الأسرى تحمل مزيد من الوجع.
في الشتاء: نقص في الأغطية والملابس الشتوية، وفقدان وسائل التدفئة، وظروف احتجاز هي الأسوأ في ظل تردي النظام الغذائي، وأمراض كثيرة تظهر، دون أن تجد ما يمنعها من الانتشار أو الاستفحال، في ظل سوء الأوضاع الصحية والخدمات الطبية. فيزداد ألمهم ألما، وتزداد معاناتهم معاناة، وتتردى أحوالهم الصحية. فتتحول الأمراض البسيطة والعرضية إلى مزمنة ومستعصية يصعب علاجها لاحقا. فيما تتفاقم المعاناة لدى الأسرى المرضى وكبار السن أضعاف المرات.
لم تكتفِ إدارة السجون بذلك، بل تتعمد أحياناً للجوء الى اتخاذ إجراءات وخطوات استفزازية، واقتحامات واعتداءات متعمدة، وتفتيشات متكررة بذريعة (الأمن) للتضييق على الأسرى والتنغيص عليهم. ويُضاف إلى ذلك إهمالهم طبيا وعدم تقديم العلاج اللازم لمن تظهر عليه أعراض أمراض الشتاء وهي كثيرة، وذلك بهدف إلحاق الأذى الجسدي والنفسي والمعنوي المتعمد بهم. بعكس ما يتوجب عليها فعله وفقاً لما تنص عليه كافة المواثيق والأعراف الدولية ذات العلاقة بالأسرى والمعتقلين والتي تُلزم الدولة الحاجزة بتوفير كل ما يلزم لعلاجهم وحمايتهم من خطر الموت أو الإصابة بالأمراض. وهذا نص المادة (13) من اتفاقية جنيف الثالثة، الذي يقول: "يجب معاملة أسرى الحرب معاملة انسانية في جميع الأوقات ويحظر أن تقترف الدولة الحاجزة أي فعل أو اهمال غير مشروع يسبب موت أسير في عهدها، ويعتبر انتهاكاً جسيماً لهذه الإتفاقية". وكذلك المادة (91) من اتفاقية جنيف الرابعة التي نصت على: "توفر في كل معتقل عيادة مناسبة، يشرف عليها طبيب مؤهل ويحصل فيها المعتقلون على ما يحتاجونه من رعاية طبية وكذلك على نظام غذائي مناسب. وتخصص عنابر لعزل المصابين بأمراض معدية أو عقلية".
لم يقتصر الأمر على التقصير في توفير احتياجات الأسرى والمعتقلين في الشتاء، ذو المناخ البارد والعاصف، وإنما تتفنن إدارة السجون في تقديم الذرائع ووضع العراقيل أمام إدخال ما ينقصهم عن طريق الأهل والمؤسسات الحقوقية، وما يمكن أن يساعدهم في سد بعض احتياجاتهم في فصل الشتاء، ويقيهم من الإصابة بأمراضه الشائعة، مما يعكس استهتارها بحياة الأسرى الفلسطينيين، وتعمدها الواضح في إلحاق الأذى بأوضاعهم الصحية. لكنها في بعض الأحيان تسمح بتوفر جزء من تلك الاحتياجات من ملابس وأغطية شتوية في مقصف السجن (الكانتينا) وبأثمان باهظة، فيضطر الأسرى شرائها على نفقتهم الخاصة، في محاولة منها لنهب أموالهم مستغلة حاجتهم لها.
هذا حال الأسرى في فصل الشتاء، الذي لم يتغير عن تلك الأحوال الصعبة التي سادت طوال العام المنصرم، وحيث استمرار الاعتقالات اليومية، وقد سُجل خلال العام 2020 قرابة (4500) حالة اعتقال، بينهم أطفال ونساء. ومضت إدارة السجون في نهجها اللا إنساني تجاه الأسرى المرضى واستهتارها بحياتهم، فسقط خلال العام المنصرم أربعة أسرى شهداء بسبب تردي الأوضاع الصحية وسياسة الإهمال الطبي المتعمد، وهم: نور الدين البرغوثي، سعدي الغرابلي، طلعت الخطيب وكمال أبو وعر. وثلاثة شهداء منهم،مع خمسة آخرين، ما زالت جثامينهم محتجزة لدى الاحتلال الإسرائيلي. في واحدة من أبشع وأكبر الجرائم الأخلاقية والقانونية والإنسانية التي تقترفها دولة الاحتلال بحق الأموات.
وحتى ما بعد انتشار جائحة كورونا في المنطقة، في آذار/مارس الماضي، فالأوضاع لم تتبدل ولم يتغير الحال، وواصلت سلطات الاحتلال معاملتها الأسرى والمعتقلين دون تغيير وبمعزل عن القانون الدولي، ولم تُقم إدارة السجون بتوفير ما هو مطلوب وضروري لحمايتهم من الإصابة بفايروس كورونا، مما أدى إلى إصابة قرابة (140) أسيرا، والعدد مرشح للارتفاع خلال الفترة المقبلة، وحالة من القلق والخشية تسود أوساط الأسرى وعائلاتهم.
وها قد شارف العام2020 على الانتهاء، وبدأنا في مراجعة أحداثه ومجرياته ومعطياته الاحصائية، ويمكننا القول في هذا المقام وبمرارة: أن العام 2020 كان مختلفا تماماً بالنسبة للأسرى والمعتقلين عن ما سبقه في كل شيء.
ونحن على مشارف عام جديد، وفي ظل استمرار وجود قرابة (4400) أسير في سجون الاحتلال، بينهم (170) طفلا، و(41) أسيرة، ووسط تحديات ظروف الاحتجاز وقسوة معاملة السجان وتردي الأوضاع الصحية وجائحة كورونا وتزايد أعداد المصابين بالفايروس في صفوف الأسرى وحلول فصل الشتاء والبرد القارس وتأثيراته، وغيرها، فان المسؤولية تزداد بزيادة المخاطر وتتطلب جهدا كبيرا وضغطا مؤثرا خلال المرحلة الحالية ولعل أهمها:
مطالبة المنظمات والمؤسسات الدولية، الحقوقية والإنسانية، وفي مقدمتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الصحة العالمية، بتحمل مسؤولياتها والتدخل العاجل من أجل توفير الحد الأدنى من الحماية الإنسانية والقانونية للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين من خطر الموت أو الإصابة بالفايروس والأمراض المختلفة، وخاصة في فصل الشتاء، وضمان تزويد المعتقلين بالفراش المناسب والأغطية الكافية، وتوفير الحماية لهم من قسوة المناخ حسب ما جاء في المادة (85) من اتفاقية جنيف الرابعة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية