تمكنتْ غزة من ابتداع أساليبَ مبتكرةٍ، لقهر ضائقة الحصار، وقهر البطالة والفقر، وهذا موضوعٌ للأسف لا يُوثَّق في دراساتٍ وأبحاث، ولا في مراكز الأرشفة إن وُجدتْ!
وأساليب غزة في نضالها الطويل ضد حصارها المتواصل، تستحق أن تكون بؤرة رصدٍ إعلامية، وتوثيق بالصوت والصورة، فهي تصلح أن تكون فيلما وثائقيا تسجيليا، يصبُّ في خانة النضال الوطني!
ولعلَّ أشهر إبداعات غزة، هو محاولة الغزيين ابتداع (مضادات الحصار) في مجال البترول ومشتقاته، الغالية والنادرة.
نشطتْ عقول كثيرين، وبخاصة في مجال استخراج النفط من اللدائن، وأكياس البلاستيك، والنايلون، ومشتقات البترول الأخرى!، وإعادة تدوير مشتقات البترول، لتُشكّل مواد أخرى جديدة ونظيفة، بالاضافة إلى استغلال الطاقة الشمسية، وتخزينها!!
ومن الطرائف، وفي مبادرة نادرة لا تحدثُ إلا في غزة، استطاعَ الغزيون أن يتغلَّبوا على نُدرة عملة(نصف شيكل) التي ترفض إسرائيل تزويدنا بها، لإحداث مزيد من الضغط على سكان غزة،باستعمال سلاح (الفكة) النقدية، أو عدم توريد العملة الحديدية الصغيرة لقطاع غزة، وهذا سلاحٌ فعَّال، لأنه يُسببُ خلافات وضائقة يومية، تَُضاف إلى مجموع الأزمات، مع العلم أن النصف شيكل له قيمة في غزة، فهو يساوي جزءُ من سبعة أجزاء الدولار الأمريكي!
استحدثَ الغزيون، للمرة الأولى في التاريخ، حلاً لأزمة النصف شيكل، في مجال المواصلات العامة؛
وذلك بأن تكونَ أجرةُ الراكبِ في سفره من بيته إلى مركز عمله، مختلفة عن الأجرة حين عودته من العمل، للتغلب على العدد الفردي، الذي يتطلب النصف شيكل، فالغزي مثلا، يدفع في الصباح أربعة شواكل، ولكنه حين يعود إلى بيته يدفع خمسة، وتبقى المسافةُ نفسُها والسياراتُ نفسُها أيضا،وهم بهذا الحل تخلصوا من عبء نُدرة وجود النصف شيكل!!
وهذا ابتكار طريف يستحق التوثيق!
ومن الابتكارات الأخرى، التي كتبتُ عنها سابقا، ابتكارُ إعادة تدوير بقايا مواد البناء المتروكة، وطحنها من جديد، للحصول على الحصى اللازم للبناء، بعد إغلاق الأنفاق التي كانت تجلب الحصى، وبعد منع إسرائيل من إدخال الحصى إلى غزة، فمن المألوف في غزة أن تجد الأطفال والنساء والرجال يبحثون عن أكوام بقايا الأحجار، وينقلونها على عربات الكارو، إلى معامل الطحن والفرز، فقد رأيت كومة كبيرة من بقايا البلاط على أحد العربات في المساء،ولما سألتُ سائقَ العربة،قال:
إن حمولة العربة هي جهدي وجهد ابنيَّ الاثنين، من الصباح إلى المساء، إن ثمن حمولتها يكفي لإطعامهم يومين، وهذا العمل أيضا لم يستطعْ الفلسطينيون توثيقه، لبيان أثره في مجال البيئة!!
وفي الإطار الابتكاري نفسه، فإن الغزيين، تحسَّبا للحصار والإغلاق، وعدم القدرة على الخروج من البيوت بسبب حالات القصف الجوي؛ يُضطرون لتخزين كميات كبيرة من الطعام في بيوتهم، ليتمكنوا من البقاء على قيد الحياة، وأكثر مادة يحتاجون تخزينها ، هي الطحين الأبيض، دقيقُ الخبز، وربما لا أبالغُ إذا قلتُ بأن الغزيين، هم أكثر دول العالم استهلاكا للخبز ومشتقاته، وأكثر البشر احتفاظا بالطحين، أو الدقيق في بيوتهم!
وبما أن الطحين سريعُ التلف، لأنه بيئة صالحة لتوالد الحشرات والسوس، فقد قام بعضهم باحتراف مهنة جديدة، وهي مهنة؛ شراء الدقيق الفاسد (المسوِّس)، لذلك فلا غرابةَ حين تسمع الميكروفونات تجوب شوارع غزة صباحَ مساء تُنادي:
(طحين مسوِّس للبيع)!!
أي أنهم لا يشترونه إلا بسوسه!! وبعد استقصائي للظاهرة، وجدتُ بأن هذا الدقيق، يُعادُ تدويره من جديد، ليتحول إلى مادة لاصقة، تستعمل لإلصاق إعلانات الشوارع على الجدران، بعد إضافة الماء إليه، وربما يستعمل في إنتاج صناعات غذائية أخرى، غير صحية!!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد