اعتدنا في الثاني من تشرين الثاني كل عام، أن نُردد (الوعد المشؤوم)، وغفونا منذ أكثر من قرن على وقع الجملة المشهورة المنسوبة للرئيس جمال عبد الناصر: أعطى مَن لا يملك وعدا لمن لا يستحق، لم نُغيِّر خطابنا، ولم نبلور صيغا جديدة لمواجهة مضاعفات هذه النكبة ؛ صيغا تلائم ألفيتنا الثالثة.
الحقيقة، لم تكن فلسطين هي وحدها المستهدفة من الوعد، بل كان الوطن العربي كله هو الهدف، وما فلسطين سوى ضحية الوعد الأولى، وخطّ المواجهة الأول.
أدرك العربُ في بداية القرن العشرين أخطار هذا الوعد، انتفضوا وثاروا عندما أصدرته بريطانيا، ليس دعما لفلسطين فقط، بل لأنهم أدركوا أن الوعد هو بداية المؤامرة الكبرى على العرب.
أوردت صحيفة «الأهرام» المصرية تفاصيل زيارة عرَّاب الوعد، آرثر جيمس بلفور، للقدس، خصصت مراسلا خاصا لمتابعة الزيارة بعد وصول سفينة، بلفور إلى ميناء الاسكندرية يوم 25-3-1925، استقبله في الميناء وفد صغير من الجالية اليهودية في مصر، ثم سافر بالقطار إلى القاهرة، ليحلَّ ضيفا على نظيره اللورد، ألنبي، قائد جيش الاحتلال لمصر وفلسطين.
عندما وصلت أخبار وصول بلفور إلى القاهرة، اجتاحت مصر ثورة عارمة، كان مركزها حي الأزبكية بوسط القاهرة، كان المتظاهرون يرددون شعارات التنديد والشجب بالضيف، بلفور والاحتلال الانجليزي، رددوا: فلسطين عربية، لا للمؤامرة البريطانية!
حتى أن محرر صحيفة «الشورى»، كتب وصفاً لطريقة قمع هذه التظاهرة، وصف إصابة أكثر من خمسين من المتظاهرين، ثم اعتقله الجيش وسجنوه عدة أيام!
قطع بلفور زيارته بسرعة، ركب القطار من القاهرة إلى فلسطين، ليحضر حفل افتتاح الجامعة العبرية ب القدس ، وصل بلفور بالقطار إلى، عيون قارة، وهي من أوائل المستوطنات اليهودية العام 1882م، تحولت العام 1921 إلى مدينة، وكان سبب نزوله ضيفا مرحبا به في المستوطنة، أن المنتدب البريطاني، أو القنصل البريطاني منح المستوطنة أرضا فلسطينية مغصوبة، تبلغ مساحتها أكثر من ثلاثة آلاف دونم، هذه الزيارة تكشف نوايا وخطط المستعمر البريطاني، تُشير إلى أن وعد، بلفور، كان مخططا له منذ زمن بعيد.
احتفى سكانُ المستوطنة ببلفور، ثم واصل القطار سيره إلى يافا حيث حظي هناك بترحيب من متظاهرين يهود.
حضر بلفور افتتاح الجامعة العبرية يوم 24-7-1925، مع المندوب البريطاني، هربرت صموئيل، واللورد ألنبي، ثم غادر بلفور فلسطين بالقطار، من محطة حيفا متوجها إلى دمشق، حين كان يحتلها الفرنسيون، عندما علم السوريون بوصوله، وعرفوا مقر إقامته في فندق في أطراف دمشق، فندق فكتوريا، حاصره السوريون المتظاهرون، ولم يمكنوه من الخروج من الفندق يوماً كاملاً، أمر الفرنسيون الطائرات أن تحلق فوق المتظاهرين لتُشتت انتباههم ليتمكنوا من تهريب، بلفور، وهكذا تمكن من الهرب.
كان العربُ يقظين للمؤامرة (الصهيوبريطانية) على الرغم من وجود ثغرات في صفوفهم، من دعاة التطبيع، وعلى رأس هؤلاء كان الشاعر العراقي، معروف الرصافي، حين مدح البريطانيين، ومدح، هربرت صموئيل، وشبه لقاءه بهربرت صموئيل مثل ليلة القدر ، مدح التطبيع مع الصهاينة، حين قال:
ولسنا كما قال الأُلى يتهموننا ......
نعادي (بني إسرال) في السرِّ والجهر
وها أنا قبل القوم جئتُ مُعلنا .......
لك الشكر حتى أملأ الدهر َبالشكر
ردَّ عليه الكاتب والشاعرُ الفلسطيني، نجيب نصار قال:
خطابُ يهودا، أم عِجابٌ من السحر..... قولُ الرصافي، أم كِذابٌ من الشعر!
أما رئيس الجامعة المصرية، أحمد لطفي السيد، فأعلن التوبة بعد أن حضر افتتاح الجامعة، بسبب هجمة المصريين عليه، واستنكارهم، لأنه لبَّى دعوة الصهاينة، وكان من أوائل المطبعين.
لن أتحدث عن نباهة الفلسطينيين في تلك المرحلة، وقدرتهم على فهم المؤامرة، لكنني سأظل أذكرُ المفكر والتربوي والمناضل الفلسطيني، خليل السكاكيني، عندما اعتلى منبر المسجد الأقصى وطالب بلفور بمغادرة فلسطين بالنيابة عن كل الفلسطينيين.
للأسف، إن صفحات فلسطين (العربية) في عصر الانفتاح والعولمة توشك أن تندثر، ليس بالمؤامرة وحدَها، بل بسبب تقصيرنا في حق تاريخنا الفلسطيني!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد