في معظم المرّات، إن لم نقل كلّها، كان التعثّر مسبّباً بتأجيل وترحيل قضايا جوهرية تشكل في الواقع أساساً كافياً للتعثر، وكان موضوع الاحتكام إلى صناديق الاقتراع مغمغماً ومفتوحاً على احتمال عقدها بنفس درجة احتمال عدم عقدها.
وبما أن «الخلاف» كان يتمحور على عدة مفاصل حيال هذا الملف بالذات، أي ملف الانتخابات من زاوية الموعد المناسب، والتحضير المناسب، والطريقة الانتخابية المناسبة، ومن حيث أن تبدأ بالرئاسية والتشريعية في آنٍ معاً، ومن حيث الفترة الفاصلة بين الرئاسية والتشريعية وانتخابات المجلس الوطني، وحول عشرات القضايا التفصيلية الأخرى، ليس في المرتبة الأخيرة منها الانتخابات في القدس ، والتوافق على عقدها بأي ثمن .. فإن الاتفاق تم على عقد الانتخابات بالتتابع وليس بالتزامن، وعلى القائمة النسبية والدائرة الوطنية الواحدة، وعلى إقامة حكومة ائتلاف وطني، بصرف النظر عن التوازنات التي تكون قد أفرزتها الانتخابات، وكذلك على مواجهة « صفقة القرن »، واعتماد أسلوب المقاومة الشعبية، وإعادة بناء المنظمة كممثل شرعي ووحيد وإصلاحها، ودخول كافة القوى والفصائل إليها، والذهاب إلى انتخابات مجلس وطني تمثيلي جديد، حيث أمكن والتوافق الوطني حيث تعذر... فإن الاتفاق الذي أعلن عنه في الحوارات الأخيرة، وخصوصاً في اسطنبول يفترض أنه أزاح من أمام إنهاء الانقسام، والذهاب إلى مصالحة وطنية جادة، معظم العقبات التي كانت تبدو وكأنها المعيق الأساسي أمام إنهاء الانقسام.
لكن الحقيقة أن المعيقات الحقيقية بالرغم من كل ما تم التوافق عليه في الحوارات الأخيرة ليست هي كل ما تم الاتفاق عليه، والحقيقة أن ما تم الاتفاق عليه ليس سوى الغطاء الذي كان يخفي المعيقات [الفعلية] التي تحول فعلاً، وليس قولا دون إنهاء الانقسام.
هنا نحن أمام المسائل الآتية:
المسألة الأولى: من سيتحكم بقطاع غزة ، وبوساطة أي سلطة سيكون هذا التحكّم؟
في الواقع ليس لدى حركة حماس إجابة عن هذا السؤال، وليس لديها أي رغبة في تقديم أي مقترحات من شأنها أن تكون قيداً عليها.
حركة حماس ليست بوارد أن تسلم السلطة في القطاع لحكومة ائتلاف وطني مهما كلف الثمن، والسبب بسيط وهو أن حركة حماس منقسمة حول هذه المسألة بالذات.
وخلاصة هذا الانقسام هو أن قيادة حركة حماس في قطاع غزة ليست موافقة على هذا التسليم تحت أي ظرف، وهي مستعدة فقط «لتنظيم» وجود سلطة مدنية ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بقرار الأمن وسلاح الأمن، ولا حتى بسلطة الأراضي والجباية، وفرض القانون إلاّ في حدود ضيقة، خارج نطاق مصالح حركة حماس ومنظومات التحكم الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، التي تديرها حركة حماس منذ أكثر من ثلاث عشرة سنة، دون «تدخل أحد»، ودون معرفة أحد، ووفق أساليب ووسائل لا يعرفها إلا عدد قليل من قيادات حركة حماس في الداخل والخارج على حد سواء.
قيادة حركة حماس في الخارج ليست قادرة على فرض الالتزام بكل الاتفاقيات التي عقدت أو ستعقد.
على النقيض من ذلك كله فإن حركة فتح لها مصلحة جوهرية مباشرة بأن تتولى حكومة ائتلاف وطني، شرعية ودستورية مقاليد الحكم في القطاع، وكذلك قيادة حركة حماس في الخارج للأسباب الآتية:
1 ـ لم تعد تركيا ولا قطر تمانعان في وجود حكومة ائتلاف وطني تتسلم الأمور في القطاع لأسباب تتعلق بالمتغيرات الإقليمية أولاً، ولأسباب تركية داخلية، وقطرية تتعلق بأزمة الخليج، وتتعلق بشعور كل من تركيا وقطر بأن «صفقة القرن» تسير باتجاه البحث عن قيادة فلسطينية بديلة عن القيادة الشرعية تكون بمثابة رديف مباشر لبعض بلدان الخليج في فلسطين، وبالتحالف مع قوى «محلية»، عشائرية وحمائلية واقتصادية مستعدة للتحالف مع هذه البلدان الخليجية.
والذي قرع جرس الإنذار على هذا الصعيد لدى تركيا وقطر وقيادة حركة حماس في الخارج هو أن الدول التي تتزعم اتجاه التطبيع وتموله، وتعمل على تعزيز هذا الاتجاه بكل إمكانياتها في مراهنة منها على إعادة انتخاب الرئيس ترامب وتكريس نتنياهو في المشهد السياسي الإسرائيلي، ما زالت تسير في طريق «محاصرة» قطر، وهي «تمعن» في المنافسة الشديدة مع الدور التركي على مستوى كامل الإقليم.
أقصد أن تركيا وقطر وقيادة حماس في الخارج أصبحوا يدركون أن «استخدام» قطاع غزة كحالة انفصال محتملة ومرجّحة، ربما سيوقع القطاع في براثن تلك الدول الخليجية، وبالتالي لم تعد «مجدية» المراهنة على كامل هذا النهج، لما يحمله من مخاطر على الدورين التركي والقطري، وعلى «مستقبل» حركة حماس من موقع خطر الاندراج الموضوعي في «صفقة القرن».
2 ـ بالرغم من أن حركة فتح أصبحت في موقع صاحب المصلحة المباشرة في الوحدة والانتخابات وإعادة بناء النظام السياسي بما في ذلك تعزيز دور المنظمة وإصلاحها، إلا أن حركة فتح ليس لديها بعد الاستعداد الكافي للبدء فوراً بإعادة الاعتبار للمنظمة، ومع كل مكونات المنظمة لحصار كل القوى التي تنتظر الكيفية التي من خلالها ستبقي على «سلطتها» وامتيازاتها في القطاع.
3 ـ لا يجوز أن ننسى أن هناك «صراعاً» على الدورين المصري والتركي ـ القطري حول «دور» القطاع في مستقبل «الحلول» المرشحة في الأفق السياسي.
وعلى هذا الصعيد هناك انسجام بين حركة حماس في الخارج و»فتح» على أهمية ومركزية دور مصر، في حين لا يوجد مثل هذا الانسجام مع قيادة حركة حماس في القطاع، حتى وإن بدت الأمور على عكس ذلك. وحقيقة موقف حركة حماس في قطاع غزة قائم على مطالب فئوية مصلحية أساساً، وليس سياسية، إلاّ بمعنى معين ونسبي، في حين أن ارتباط حركة حماس في الخارج بالمعادلة الإقليمية يجعلها مشدودة أكثر بكثير نحو البعد السياسي العام لإعادة توحيد الساحة الوطنية.
قيادة حماس في الخارج لها مصلحة كبيرة في التصدي لمشاريع القيادة البديلة، لأن تحالفها مع قوى عشائرية وحمائلية ورجعية ومرتبطة بمصالح حيوية مع منظومات الاحتلال الاقتصادية والاجتماعية سينهي دورها الوطني، في حين أن قيادة القطاع ليس لديها خصومة مباشرة وخاصة مع هذه القيادات، إن لم يكن العكس هو الصحيح.
وقيادة حماس في القطاع تفاوض الجميع من موقع السيطرة على القطاع، وعلى السلاح، وعلى التجارة والاقتصاد وعلى الموظفين، وعلى كافة مرافق الدويلة أو الإمارة القائمة، في حين ليس لدى قيادة حركة حماس في الخارج سوى بعض العلاقات المقيدة والمشروطة بشروط وهوامش كل من تركيا وقطر.
بكل هذه المعاني فإن قيادة حماس في القطاع هي القيادة الفعلية، وهي صاحبة القرار وهي التي ستقرر إنهاء الانقسام من عدمه، وهي حتى الآن لم تقرر، ولن تقرر قبل معرفة السيد في البيت الأبيض، وهي حتى وإن وافقت على إجراء الانتخابات فهي تراهن على تغيرات من شأنها أن تقلب الأوضاع رأساً على عقب قبل موعدها الذي يمكن أن يتقرر بعد ستة أشهر من الآن على أقل تقدير.
هذا هو الذي يفسر لنا لماذا تناشد حركة فتح صبح مساء ضرورة الإسراع بالرد على تفاهمات اسطنبول دون أن تتلقى الجواب حتى الآن.
هذه، هي المرة الأولى التي نلاحظ من خلالها أن حركة فتح على عجلةٍ من أمرها لترتيب البيت الفلسطيني، في حين نلاحظ أن حركة حماس على «أقل من مهلها» في الاستجابة.
والمشكلة، وطالما أن الجميع ينتظرون هوية الساكن الجديد في البيت الأبيض، والعالم كله يترقب هذا الأمر مع كثير من المخاوف والهواجس فإن حركة حماس في القطاع تعتبر نفسها «رابحة» على الحالتين:
فإن جاء ترامب فالاندراج يصبح ممكناً في صفقة القرن، وساعتها لن يظل هناك ما يمكن أن تقوله قيادة حركة حماس في الخارج، وإن نجح بايدن فالتفاهم ما بين وريث أوباما والإسلام السياسي في المنطقة أسهل من أي تفاهم آخر.
من أجل ذر الرماد في العيون سنشهد بعض المناورات التي توحي بأن قطار المصالحة قد بدأ بصفير الانطلاق، لكننا لا ندرك جميعاً مع الأسف أنه سيتوقف في أول محطة قادمة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية