بقلم الباحث في الشئون السياسية/ د. رائد نجم

تميزت السياسة الخارجية لإدارة ترامب بالعدمية الواضحة، فهي لم تهاجم الدول المنافسة فحسب بل والدول الحليفة كذلك، وهذا مؤشر على محاولتها استرداد نفوذ متراجع. ومن أمثلة هذه السياسات انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ، ومعاهدة الصواريخ المتوسطة مع روسيا، وتهديدات ترامب بعدم تجديد اتفاقية ستارت التي تحد من عدد الرؤوس الحربية النووية المنتشرة، و انسحاب ترامب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي، والاتفاقية النووية الإيرانية وعملية السلام الفلسطينية الاسرائيلية.

لقد أدى عداء ترامب المطلق تجاه الصين وروسيا خصوم واشنطن الرئيسيين على المسرح العالمي إلى توحيدهم ضده، حيث عمل على شيطنة الصين، وحملها مسؤولية مشاكل الاقتصاد الامريكي، ومسؤولية انتشار كوفيد 19 والوفيات الناتجة عنه. وزاد من احتكاكه بالصين من خلال التواجد العسكري في بحر الصين الجنوبي، مما جعل الصراع العسكري بين الطرفين يبدو وشيكاً. اما مع روسيا فقد انسحب من معاهدة الحد من الأسلحة معها، وفرض عليها عقوبات شديدة، وضغط على الدول الأوروبية التي تعتمد على الإمدادات الروسية من الغاز الطبيعي لوقف بناء خط أنابيب جديد يوسع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا.

في الشرق الأوسط، تنهى ادارة ترامب حكمها والمنطقة تعيش حالة صدع جيوسياسي ممتد، فعدد الدول الفاشلة يزداد بدخول اليمن وربما لبنان مع ازمتها الاقتصادية الحادة الى جانب سوريا والعراق والصومال وليبيا، وأنظمة حكم ضعيفة، وأخرى استبدادية، وازمات حكم ومشاكل مستعصية من نمو سكاني الى انعدام فرص الشباب بالحصول على عمل، وتراجع الامن الغذائي، وتراجع اقتصادي عام، وانتشار الفساد، مع وجود كوفيد 19 في خلفية المشهد. وسيطرة دول الاطراف تركيا وايران واسرائيل في مقابل تراجع دور الدول العربية الفاعلة. وصعود دور الفواعل ما دون الدولة كالحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وحزب الله في لبنان، و حماس والجهاد في فلسطين، والجماعات في سوريا وليبيا والصومال ما يضع المنطقة في ميزان قوى متحول. خاصة مع أجواء عدم الاستقرار التي اظهرتها موجة الربيع العربي الثانية التي ضربت العراق ولبنان والسودان والجزائر.

على صعيد القضية الفلسطينية عمل ترامب على عزل الفلسطينيين وتقوية إسرائيل بشكل أكبر من خلال نقله السفارة الأمريكية إلى القدس ، والاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال، وبهضبة الجولان كأرض إسرائيلية، ووضع ما يسمى بخطة سلام بدون مشاركة أو مساهمة فلسطينية تسمح للاحتلال بضم 33% من مساحة الضفة الغربية. كل هذا أضر بسمعة الولايات المتحدة بين الشعوب العربية في المنطقة. وتسبب في نفورها من ادارته بسبب دعمه لإسرائيل أكثر من أي رئيس أمريكي آخر، واظهر الولايات المتحدة كطرف غير محايد. واضر بجهودها الرامية الى لتأمين المنطقة قبل الانسحاب شرقاً باتجاه الصين نتيجة استمرار أزمات المنطقة ومن ضمنها القضية الفلسطينية دون حل.

تخطط الولايات المتحدة للانسحاب من المنطقة والاتجاه شرقاً نحو الصين المهدد الحقيقي لاستمرار الهيمنة الامريكية في العالم. وذلك لأنها لا تملك القدرة على تحمل البقاء في المنطقة بينما تخوض مواجهة مع الصين القوة الدولية الصاعدة التي تريد محاصرتها وعزلها. وهي مواجهة يرجح أن تستمر، وتتطلب الكثير من الموارد العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية الأمريكية. لذلك لا يمكن ان يتحمل الاقتصاد الامريكي المتراجع اصلاً ضخ مليارات الدولارات في مواجهة الصين وخوض حرب كبرى اخرى في الشرق الاوسط ضد ايران وميلشياتها. ولهذا الغرض بدأت الولايات المتحدة بتقليص الوجود العسكري الامريكي في العراق، وفي سوريا، وحتى حول الخليج. وتفاوضت مع حركة طالبان عدوتها في افغانستان من اجل التوصل لاتفاق بشأن مغادرة افغانستان.

وفي اطار جهود الانسحاب من المنطقة وتأمينها ببناء محور استراتيجي اسرائيلي عربي في مواجهة ايران، توسط ترامب مؤخراً في صفقة بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين تعترف فيها الامارات والبحرين بإسرائيل وتقومان بتطبيع العلاقات معها، ثم مارس الضغط على السودان التي طبعت علاقاتها بدورها. وهذه الاتفاقيات تؤكد انسحابه من جهود السلام بمرجعياتها السابقة، وسعيه لتكريس صفقته كمرجعية جديدة للسلام، واظهار ان العرب موافقون عليها وعلى استمرار الوضع الراهن لإسرائيل المتمثل في وضع القدس تحت سيادة الاحتلال، و سرقة الأراضي، وهدم المنازل، والقتل، وممارسة الفصل العنصري، وانتهاك حقوق الفلسطينيين.

ولإنجاح عملية بناء هذا المحور قامت ادارة ترامب بمجموعة من الاجراءات ضد ايران من اجل اخضاعها لشروط حلفاءها في المنطقة الذين شعروا بالقلق من الاتفاق النووي الذي وقعه الرئيس السابق اوباما مع ايران، والذي يتركهم في مواجهة ايران دون وضع حد لطموحاتها التوسعية في المنطقة. فقام ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع ايران بعكس رغبة شركاءه الاوربيين، وفرض عقوبات اقتصادية عليها، وقام باغتيال قاسم سليماني ، وهدد بفرض عقوبات على شركات السلاح التي تتعاون مع ايران، وفي المقابل اراد ترامب توظيف التطبيع لزيادة فرص انتخابه، وقد دعمته دول التطبيع خوفاً من نجاح بايدن والعودة للاتفاق النووي مع ايران.

تهدف صفقة التطبيع الى أن تقوم اسرائيل بملء الفراغ الناتج عن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة من خلال تقديم دعم عسكري استراتيجي للإمارات والسعودية والبحرين في مواجهة ايران مع انسحاب الولايات المتحدة، بالإضافة الى التعاون الاستخباري وتوفير اجواء للطيران العسكري الاسرائيلي فوق دول الخليج. ولكن هذا لا يحمي الخليج، بل يعرضه للانتقام الايراني مقابل أي عمل تقوم به اسرائيل ضد ايران، وهو ما اعلنته ايران في بيان رسمي، ويوفر مزيد من الاهداف لإيران بدلاً من تكبد حزب الله عناء الرد على اسرائيل، ويوسع رقعة المواجهة. كما انه لا ضمانة ان تلتزم اسرائيل بمواجهة طويلة مع ايران من اجل الخليج؛ فاستمرار المواجهة يعني استمرار حالة عدم الاستقرار في المنطقة، التي تعيش تصادماً اخراً بين السعودية والإمارات ومصر من جهة وتركيا وقطر من جهة اخرى في عدد من النزاعات الإقليمية. علاوة على الحساسية الناتجة عن تنامي الدور الخليجي على حساب الدورين المصري والاردني كدول مواجهة، وتأثيراته الاقتصادية على مصر من حيث خلق مسارات تجارية جديدة كشحن النفط الى اوروبا عبر الموانئ الاسرائيلية ما يقلص ايرادات قناة السويس.

رغم استبعاد ادارة ترامب للفلسطينيين من جميع التحركات الأخيرة، والتي تضمنت وضع خطة سلام بالتعاون مع الاحتلال تتجاوز المبادرة العربية دون استشارة الفلسطينيين الذين لا زالت اراضيهم محتلة، والضغط من اجل التطبيع دون تسوية فلسطينية اسرائيلية، الا ان موافقة مجلس الامن باستثناء الولايات المتحدة على مبادرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لعقد مؤتمر دولي للسلام وفق قرارات الشرعية الدولية كان مؤشر على رفض العالم لخطة ترامب وسياساته تجاه القضية الفلسطينية. فالعالم اظهر اسناده للحق الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة، ورفض الاستيطان، وخطة الضم، وعبر عن رفضه لأي مبادرة لا تنطلق من القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ومبدأ حل الدولتين، وعبر من خلال ترحيبه عن رفضه استمرار احتكار الولايات المتحدة رعاية المفاوضات. ورغم الترحيب باتفاقات التطبيع الا انها لم تشكل بديلاً لإيجاد حل للقضية الفلسطينية. وقد تجد هذه المبادرة فرصة مع تغير حاكم البيت الابيض؛ فعلى الرغم من تأييد بايدن لخطوة التطبيع الا انه يفضل العودة لحل الدولتين.

لن يحل التطبيع محل عملية السلام كما نعرفها، و لن يتم حل القضية الفلسطينية أبداً حتى يكون هناك اقليم جغرافي متواصل لدولة فلسطينية وفق حدود 1967 ليقرر فيها الفلسطينيون مصيرهم. وأي خيارات أخرى غير حل الدولتين لن تمثل بديلاً، فاستمرار اسرائيل في السيطرة على الاراضي المحتلة وتطبيق السيادة عليها، يعني الذهاب في خيار الدولة الواحدة وهو خيار لا يلقى دعم داخل إسرائيل ويواجه تحفظ فلسطيني بسبب غموض مرتكزاته. اما فكرة ازاحة حدود دولة الاحتلال الى الحدود مع الاردن مع ابقاء الفلسطينيين في معازل فهو يعني دولة فصل عنصري لأنها لن تمنح الفلسطينيين حقوق متساوية. لذلك لا يتبقى لتحقيق السلام الا حل الدولتين الذي يمنح الفلسطينيين حقهم في دولة مستقلة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد