ما يلفت الانتباه لمن تابع ملف التطبيع، هو أن أميركا وإسرائيل قد مارستا ضغطاً هائلاً على السودان المثقل كاهله بالفقر ومخلفات الحرب الأهلية وتبعات نظام مستبد سابق، كذلك ما زالتا تمارسان ضغطا غير عادي على كل من السعودية وعمان، فيما لا تفعلان الشيء ذاته تجاه قطر، التي كانت الدولة الخليجية الوحيدة التي فتحت مكتباً تمثيلياً لإسرائيل بعد اتفاق أوسلو، كذلك كانت رائدة فيما يخص «التطبيع الإعلامي» من خلال استضافة إعلاميين وحتى مسؤولين حكوميين إسرائيليين على قنواتها الفضائية، بل يكاد رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي يكون مقيماً في الدوحة، حيث يواصل مع حكومتها متابعة ملف « حماس »، فيما محمد العمادي قد تفرغ لجولاته المكوكية الى غزة عبر إسرائيل، بينما لم تطأ قدم مسؤول خليجي آخر حتى اللحظة أرض إسرائيل !
يبدو أن قطر قد تم توظيفها في مكان آخر، أو لمرحلة أخرى تالية، فهي «في العب» او في الجيب، كما يقول المثل، فإذا كان إعلان التطبيع في هذا التوقيت بالتحديد كان بهدف انتخابي لدونالد ترامب الرئيس الأميركي/المرشح، إلا ان الهدف الحقيقي هو عزل فتح والسلطة، واجبارهما على قبول خطة ترامب، بعد نزع ورقة قوة بيدهما، بل وعزلهما عن محور الاعتدال العربي الحليف أو المساند لهما خلال الفترة الماضية، وفعلا كانت نتيجة إعلان التطبيع المباشرة ان اندفعت فتح والسلطة تجاه حماس، وليس العكس، واقتربتا من حلفيهما الإقليمي، نقصد التركي بالتحديد.
ومعروف ان جوهر خطة ترامب/نتنياهو هو منع إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية، وذلك من خلال تقسيمها والسيطرة التامة على نحو ثلثها، وفصلها عن غزة، مقابل الدفع بدولة غزة الى الأمام، لذا فقد طرح بعض المراقبين بعد إعلان التطبيع مع الإمارات والبحرين سؤالاً وجيها، وهو ماذا سيكون موقف «حماس» لو انه تم إعلان التطبيع أيضاً مع قطر.
على العكس من موقفها تجاه السلطة وفتح، لأنهما تحملان ملف الضفة الغربية و القدس ، يبدو موقف اسرائيل تجاه «حماس» ما دامت تحمل ملف غزة فقط، ففي الوقت الذي تضغط فيه إسرائيل حتى مالياً على السلطة و»فتح» في رام الله ، فانها تضغط على قطر لمواصلة ضخ المال لحماس في غزة، هذا رغم حديث الأنفاق والصواريخ وحتى البالونات الحارقة، ورغم وجود الأسرى الإسرائيليين في قبضة «حماس» منذ اكثر من ستة أعوام خلت، وهكذا يبدو بانه عند إسرائيل مفاوض عن مفاوض يفرق، خاصة وان التفاوض غير مباشر بما يلبي رغبة الطرفين، ويجري من خلال طرف مقبول جداً لهما معاً، وهذا أمر لافت أيضاً.
وإسرائيل منذ وقت طويل تحرص على التمييز او التفريق بين مقاوم حمساوي ومقاوم جهادي بالتحديد، و»حماس» أيضا باتت تحرص على هذا، فهي تمارس في غزة ضمن ثنائية السلطة والمقاومة تبادل الأدوار مع «الجهاد»، حليفها السياسي أيضا، وهذا مثلث من العلاقات مثير للغرابة، كما حال حزب الله مع الحكم اللبناني، مع ان إسرائيل تحرص على ضرب بنية لبنان الدولة حين تواجه حزب الله، بهدف دفع الدولة لمواجهة الحزب، فيما في غزة تكتفي بضرب أهداف «الجهاد»، لتبقي على تحول العلاقة مع «حماس» على طريق ان تكون سلسة، والى ان تظهر «حماس» تدريجياً كحركة مسؤولة ومن ثم مقبولة على الإسرائيليين وعلى العالم أيضاً.
ملخص القول بأنه يجري الاهتمام بـ «حماس» وهي تحمل ملف غزة فقط، لتكون الوريث الشرعي الوحيد لـ «فتح» والسلطة، حتى اذا ما نضجت الظروف، اعلن عن تفاوض سياسي لإعلان دولة فلسطينية في غزة، وذلك يتأكد رغم كل حديث المصالحة، لأن إنهاء الانقسام، لا يبدو أمراً وارداً او ممكناً إلا في حالة واحدة، وهي ان تسيطر «حماس» على كل مراكز النظام السياسي الفلسطيني، ومدخل ذلك ان تقر «فتح» رسميا بندية «حماس»، ثم تسعى «حماس» لتحويل «فتح» الى حركة تقبل قيادة «حماس» للشأن الفلسطيني.
فمما يثير التساؤل هو إصرار «حماس» في مباحثات الدوحة التي لم تتوقف، على استمرار ضخ الأموال القطرية لعام قادم، رغم الحديث عن إنهاء الانقسام، وكأن وجودها في غزة أمر دائم، بل ابدي، وفي الوقت الذي يتصاعد فيه التوتر على حدود غزة بين «الجهاد» ببالوناتها الحارقة وإسرائيل ارتباطاً مع إضراب الكادر الجهادي ماهر الأخرس، يدرس طرفا الحكومة في إسرائيل بنيامين نتنياهو و بيني غانتس عن تجديد السماح لتجار غزة وعمالها بالعمل في إسرائيل.
بل في نفس اليوم الذي اعلن فيها قطبا الحكم في إسرائيل عن ذلك، كان غيورا آيلند صاحب فكرة الدولة في غزة، يجدد تحديث فكرته بنشره مقالاً في هآرتس يوم 25 الجاري، عن دولة غزة، دون حديثه السابق عن ربطها بالضفة، ولا عن توسيعها عبر تبادل الأراضي في سيناء.
حقيقة الأمر ان ما يدعو للشك لدى الشعب الفلسطيني، هو عدم تطور الحال على الأرض في الضفة الغربية، فكل الحديث عن المصالحة وإعلان القيادة الموحدة للمقاومة الشعبية، لم يجد اي ترجمة على الأرض، وهذا كما هو معروف، الرد الوحيد الذي يمكن ان يجعل من الرد الفلسطيني على التطبيع رداً فاعلاً، ورافعاً او داعماً للموقف الرسمي الذي فرض الانكفاء على إعلان الضم قبل ثلاثة اشهر، لكن جاء إعلان التطبيع ليضعف من فاعلية الموقف الرسمي، حيث لا احد يمكنه ان يتجاهل عدم اهتمام حماس بتقوية الموقف الرسمي للسلطة.
ما زالت «حماس»، إذاً تسعى للاحتفاظ بما هو منجز لديها، أي السيطرة على غزة، مع مواصلة السعي على دفع الأمور لترتمي «فتح» والسلطة في أحضانها، على قاعدة ما تسميه برنامجها، وهذا أيضاً هو مفهومها للشراكة، وهناك اكثر من سبب يدعو «حماس» ويبرر لها، بان هذا الزمان إنما هو زمانها، وأنها الأجدر بحمل كل الملف الفلسطيني، ليس على قاعدة تحقيق ما عجزت «فتح» عن تحقيقه من أهداف، بل قبول ما رفضته «فتح»، بحيث تكون هي الأكثر قبولاً وقدرة على التوافق مع النظام الإقليمي الحالي، بتحولاته المتوافقة مع الأهداف الإسرائيلية اليمينية، التي لفظت غزة منذ زمن، مقابل الاحتفاظ بالقدس والضفة الغربية الى ما شاءت لها الأقدار.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية