"هناكَ طائفةٌ من الكُتابِ يَسُنُّونَ أقلامَهم للمكائد، أكثر مما يسنُّونها للكتابة، وهناك مَن أقلامُهم مُسخَّرةٌ للتبرير، وليستْ موظَّفةً للتغيير" هذه الحكمة الموجزة هي للكاتب والأديب والفيلسوف، أبي حيان التوحيدي المتوفى 1023م.


إذاً، إن موجهي الرأي العام قسمان، كُتاب السلاطين والرؤساء والملوك من المُبَرِّرينَ المنافقين، هؤلاءِ يوظفون أقلامهم لنحت مُبرراتٍ للأخطاء والجرائم التي يرتكبها الحكامُ والأمراء، هؤلاء المُبَرِّرون يتبرعمون، ويتكاثرون في عهود الطغاةِ طلباً للرزق وللجاه، هؤلاء وظفوا قدراتهم وكفاءتهم لإدامة الطغيان، حتى أن بعضَ هؤلاء المتفيهقين، أفتوا لبعض الأمراء بأنَّ الله غفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخَّر، وليس عليهم ذنبٌ فيما طَعِمُوا أو شربوا، وأفتى مبررون كثيرون بجواز قتل منافسي الأمراء لأنهم يثيرون الفتنة، لأن الفتنة أشدُ من القتل، حتى ولو كان المنافسونَ إخوةً!


أما النوع الثاني، فهم الكتابُ ذوو الرسالة السامية، ممَن يوظفون أقلامَهم لتغيير الحياة والفكر إلى الأفضل، هؤلاء مُعرَّضون للانقراض في عصور الطغيان والاستبداد!


 من طرائف ما قرأتُه لأحد الكتاب (الُمبرِّرينَ) ممن نحتوا وسخروا جهودهم لإسعاد وإمتاع الأمراء، هذه اللقطة الطريفة من كتاب، غير مشهور، استحدث هذا الكاتبُ فنَّا جديدا في النفاق، والتبرير، أجازَ الطغيان والديكتاتورية والقهر، حتى لو كان الثمن امتهان إنسانية الإنسان، واغتيال العزة والكرامة من الرعية.


ألَّفَ هذا الكاتبُ كتاباً لإمتاع الأمير، خصص في كتابه فصلا لفن صفع الأمراء للنُدماء والجلساء لإمتاع الأمير، وجلب السرور إلى نفس الأمير! من صفحة 53إلى صفحة61.


إليكم هذه الفلسفة (الصفعية) التبريرية:


" اعلم أنَّ الملوكَ لا يخلو أحدهُم من نديمٍ يُصفَعُ قُدامه، ويلعب بين يديه، يَسرُّه، ويُؤنسه، مع ما يحظى به النديمُ من التنعُّم عليه، فإنه يأكلُ ما لم يَسبق له أن أكلَه، ويشربُ ما لم يستطع شراءه!"


لم يكتفِ الكاتبُ بفائدة الصفع على المصفوع في بند الطعام والشراب، بل انتقل إلى فائدة أخرى نفسية حين قال:


"في الصفع تصفيةٌ للذهن، وتذكيةٌ للقلب، وزيادةٌ في الحفظ، ونفيٌ للنسيان، يُزيل البلادة، ويلطف الفطنة، إنك لا ترى (مصفوعاً) إلا حادَّ المزاجِ، عذبَ الخطاب، رقيقَ الطبع، صحيحَ الجسم، واسع الخلق".


ثم يتحول الكاتب إلى طبيبٍ يصف فوائد الصفع العلاجية، قبل اكتشاف مصحات العلاج الطبيعي:


"في الصفع علاجٌ لأدواءٍ كثيرة، منها داء الفالج، واللقوة، والسكتة، والصدمة من البرد، والزكام الشديد، وفيه أمانٌ من البرص، والبهق، والجذام"!
أما عن فوائد الصفع الاجتماعية:


"يُتاح (للمصفوع) أن يحضرَ مجالسَ السلطان، ويدخلَ في جملة الخاصة، يخرجُ من العوام، ويصل إلى منزلة لا يصل إليها قائدُ الجند الجليل، ولا الكاتب النبيل"!


لم يتوقف هذا المُبرِّرُ (العالمُ الجليل) عن إيراد فوائد الصفع السابقة، بل إنه أخضع هذه (المهانة) للعلم، فنحتَ خلاصات أبحاث الصفع، قال:
"أجمع الأطباءُ والفلاسفةُ على أن الدم إذا تعقَّد في الدماغ، دخُنت البخاراتُ البلغمية، وتفشتْ إلى الرقبة، لذا فإن الصفع ضروريٌ حتى لا يتلف الدماغ".


(النص السابق من كتاب، نزهة الألباب للكاتب، للقاضي التونسي شهاب الدين التيفاشي، المتوفى في القاهرة 1253م، الطبعة الأولى 1992 دار رياض الريس- لندن).


للعلم فقط، إن ألفيّتنا الراهنة تغصُّ بالمبررين ممن برروا لنا فوائد الجوع والفقر، والإحباط والقهر، والهزيمة، والتخلف، والاقتتال، والانقسام!
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد