الكثيرون على المستوى الفلسطيني، وكذلك العربي، لا يجدون من الفوارق ما يستحق الذكر، ولا الأخذ بالحسبان بين كل الإدارات الأميركية المتعاقبة فيما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني، وفيما يخصّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على وجه التحديد.


ويستند هؤلاء على حقائق دامغة وكبيرة، وعلى سلسلة ملموسة من الوقائع والأحداث والمعطيات، على مدى زمني طويل ومتراكم، يمتدّ إلى مراحل سبقت الحرب العالمية الثانية، وقبل تسيّد الولايات المتحدة على العالم الغربي، وتزامنت مع نشأة المشروع الصهيوني، وتطورت مع تنامي وتصاعد مراحل تحقق هذا المشروع.


والحقيقة أن فهم العلاقة بين الولايات المتحدة وبين إسرائيل كمشروع غربي بامتياز ليست مسألة معزولة، بل هي مرتبطة صميمياً بعوامل عدة متشابكة ومتداخلة إلى أبعد الحدود، وإلى علاقات معقّدة من تبادل المصالح، ومن تبادل عناصر التأثّر والتأثير في مراحل زمنية شهدها المشروع الصهيوني من جهة، ومراحل خاصة في دور ومكانة الولايات المتحدة دولياً وإقليمياً، وخصوصاً مصالحها ودورها ومكانتها في الإقليم الشرق أوسطي.


ومن بين أهم معطيات ووقائع وحقائق هذه العلاقة هو الدور الإسرائيلي الوظيفي في خدمة المصالح الأميركية، ودور اللوبي الصهيوني والإسرائيلي داخل الولايات المتحدة، ودرجة تأثير هذه اللوبيات على مؤسسات القرار في الولايات المتحدة.


كما يضاف إلى ذلك كله، ضعف الموقف العربي المناهض للسياسات الأميركية، وخصوصاً بعد هزيمة حزيران وانكفاء الحالة الناصرية، وتحول معظم الأنظمة العربية إلى أنظمة مهادنة أو تابعة للسياسات الأميركية، وتحول بعضها إلى الخضوع التام لهذه السياسات.


حدث تغير نوعي جديد، غير مسبوق وانقلابي في العلاقة الأميركية الإسرائيلية بعد أن تسيّد اليمين القومي والديني المشهد الإسرائيلي سياسياً وحزبياً، وبعد أن تمكن اليمين الأميركي من خلال إدارة ترامب من هزيمة الحزب الديمقراطي، بعد سنوات متراكمة من تبلور الدور السياسي للإنجيليين المتصهينين، وبعد أن حسم اليمين الإسرائيلي مواقفه بالكامل لمصالح اليمين الأميركي، وتحول إلى عامل ضاغط باتجاه نجاح ترامب، بل ودخل المعركة الانتخابية الأميركية من أبوابها الواسعة في سابقة خطيرة خارج إطار المألوف السياسي وسياقاته على مدى أكثر من سبعة عقود من عمر الدولة الإسرائيلية، وفي انحيازات وانزياحات تنطوي على مغامرات سياسية أقلّ ما يمكن أن يُقال عنها بأنها غير محسوبة، ومحفوفة بالكثير وبالخطير من النتائج والتبعات والتداعيات.


وكما حسم اليمين الأميركي مواقفه من الصراع العربي الصهيوني باتجاه التطبيع وإقامة الأحلاف بين إسرائيل والنظام العربي المتهالك وأجبر مراكز القرار السياسي العربي وعواصمه الرئيسة على حسم مواقفها لصالح هذه السياسة الأميركية الجديدة، فقد حسم هذا اليمين مواقفه كلياً ونهائياً من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لصالح اليمين الإسرائيلي، وتبنى كامل الرواية الصهيونية والسياسات الإسرائيلية، وانتقل من دائرة الدعم والإسناد لهذا المشروع وهذه السياسات إلى دائرة المشاركة فيها، وتزعّم فرضها على الأرض، والانخراط التام وبكل ما يمتلك من قوة وأدوات، وبكل ما للولايات المتحدة من سطوة ونفوذ مسخراً لها كل الإمكانيات والقدرات التي يتحكم بها خدمة لإسرائيل وأهدافها وتطلعاتها.


ألحق هذا التحالف الجديد والذي يستند كما أسلفنا إلى تاريخ طويل من علاقات خاصة وتحالف مميز، وإلى إسناد فريد وربما وحيد، أيضاً، في تاريخ العلاقات الدولية للبشرية المعاصرة.. ألحق بالقوى الديمقراطية والليبرالية الأميركية ضرراً بالغاً، وساهم بصورة خاصة في تغول ترامب على المجتمع الأميركي، وبما أصبح يهدد النظام الديمقراطي، وبما وصل إلى أقصى درجات التطرف والعنصرية، وبما تحول إلى تهديد مباشر لوحدة وتماسك النسيج الاجتماعي ووضع وحدة البلاد نفسها أمام أخطار حقيقية.


إزاء هذا الواقع الجديد، وهذه المستجدات النوعية والكبيرة في واقع العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وإزاء ما وصل إليه مشروع التحالف العربي الإسرائيلي، والذي بات مرسماً وعلنياً ومحدداً في الوجهة والأهداف، تصبح المواقف التي أشرنا إليها في مقدمة هذا المقال حول عدم وجود فوارق بين الإدارات المختلفة في الولايات المتحدة حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تحديداً مواقف قاصرة عن قراءة الواقع، وعاجزة عن تقديم الحلول والتوجهات الموضوعية في سياسات ومواقف القوى والمنظمات ومجموع فصائل العمل الوطني في فلسطين.


ولذلك فإن البقاء عند تلك النقطة في فهم العلاقات الأميركية الإسرائيلية لا يعني في الواقع السياسي القائم سوى التخلي عن خوض معركة كبيرة ومهمة، ولا مناص من خوضها لاستثمار هذا المتغير الكبير في تلك العلاقة، ومحاولة توظيف عناصرها الفاعلة الإيجابية لصالح الأهداف الوطنية الفلسطينية.


وهناك فارق جوهري بين الارتهان والمراهنة على هذا الجديد، وبين اعتبار هذا المتغير واحدا من سلسلة من المعارك السياسية والدبلوماسية التي علينا واجب التعامل معها، وواجب استثمارها، وكذلك واجب الاستفادة من كل معطياتها الجديدة، وما ستفرزه من مواقف، وما ستنطوي عليه من سياسات.


إذاً، ليس صحيحاً على الإطلاق، ولا يمكن أن يكون صحيحاً أبداً أن الحزب الديمقراطي الأميركي هو نفسه الحزب الديمقراطي بعد صعود ترامب إلى سدة الحكم، وبعد كل ما عاثه فساداً وشعبوية في المجتمع الأميركي، وبعد كل ما خرّب وأساء إلى دور ومكانة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، وبعد أن دمّر كل أسس الشرعية الدولية والقانون الدولي في رؤى وسياسات وعلاقات الولايات المتحدة.


وليس صحيحاً أبداً أن الحزب الديمقراطي الأميركي سيعود ليتبنّى سياسات ترامب حول القضية الفلسطينية، كما أن ترويج هذه الأوهام والخرافات بالاستناد إلى حقائق التحالف الخاص مع إسرائيل، أو إلى تاريخ هذا التحالف هو أمر مضحك، لأن الأمر ببساطة يتعلق بصراع أميركي أميركي حول نهجين مختلفين، لم يعد ممكناً تماثلهما حتى حيال إسرائيل وحيال الصراع في هذه المنطقة.


وأما عرب التطبيع وأعرابه، والذين عملوا ليلاً ونهاراً من أجل تكريس ترامب وإدارته على عرش البيت الأبيض فإن مصيرهم إما الخضوع للسياسة الأميركية الجديدة المرتقبة والمفترضة في حالة فوز الحزب الديمقراطي، أو تركهم لرحمة الأطماع والتهديد الإيراني، والتي هي أطماع حقيقية، وتهديد مباشر لهم ولأنظمتهم.


ناهيكم طبعاً عن المراهنات الأميركية في الداخل الإسرائيلي على قوى بديلة لقوى اليمين المتطرف فيها بقدر ما سيكون ممكناً ومتاحاً.
ولهذا فإن درء مفاسد ترامب وإدارته ليس أولى من جلب المنافع فقط، وإنما أهم من كل المنافع في هذه اللحظة التاريخية بالذات.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد