"أمي وأبي، لا تقلقا؛ في الصباح سأعود إلى غزة"
غزة / سوا / ليس حربا ودمارا فقط، في غزة ينمو أيضًا جيل من مطوّري البرمجيّات، مدمني الكمبيوتر، التطبيقات وسائر برامج التكنولوجيا الفائقة.
مكتب إليانا مونتاوك موصول الآن بمولّدَي كهرباء. لم يتحمّل المولّد الواحد عبء الشتاء. ولكن الآن هناك اثنان، فعادة ما تكون هناك كهرباء. وعندما تكون هناك كهرباء، يكون هناك إنترنت. وعندما يكون هناك إنترنت، يمكن الاتصال بالعالم الخارجي. ويمكن في الأشهر الأخيرة أيضًا الالتقاء بالعالم الخارجي، بعد أن وفّرت السلطات الإسرائيلية أخيرا تصريحات خروج لمبادري "ستارت أب" الذين تسعى لتشجيعهم. وهي ليست بحاجة إلى أكثر من ذلك.
تبلغ مونتاوك من العمر 32 عامًا، وهي أمريكية ولدت في بلجيكا وترعرعت في بيركلي في كاليفورنيا. وقد وصلت إلى برنامج Gaza Sky Geeks، وهو برنامج لتشجيع مبادري "ستارت أب" والذي تديره في قطاع غزة، عن طريق الصدفة. اهتمّت في سنّ الثانية عشرة بالشعر وطلبت من والديها تعلّم العربية لتقرأ أعمال الشعراء العرب. تجاهلوا الأمر، وظنّوا أنّه سيُنسى. ولكنه لم يُنسَ. في المدرسة الثانوية في بيركلي، كان بإمكانها اختيار لغة أجنبية إضافية لتتعلّمها. اختار الجميع الصينية، ولكنّها أصرّت على العربية.
"أنا مهووسة باللغات"، كما تقول. "كنت في الثانوية أتحدّث فعليّا أربع لغات، كانت في الأساس أوروبية، وحينها كنت بحاجة إلى اختيار لغة إضافية. تعلّم الكثيرون في تلك الفترة اللغة الصينية، ولكنّني لم أعرف أحدا تعلّم العربية وأردت شيئا مميّزا. أذكر بأنّني شعرت أنّ العالم العربي هو جزء من العالم الذي لا أعرف عنه أي شيء، حتى أمريكا، لا تعلم عنه أي شيء. الطريق الوحيدة للتعرف على شخص ما هي التحدّث بلغته. وقتذاك لم نكن أيضًا نعلم عن الصين شيئا، ولكنّني شعرت بأنّ الجميع يريدون تعلّم الصينية لأنّها غريبة، أما العالم العربي فهم ينظرون إليه كشيء تهديدي. كان ذلك قبل 11 أيلول من العام 2001، عندما لم يكن بعدُ هناك طلب على المتحدّثين بالعربية".
عندما أنهت الكلية، تمّ قبولها بفضل تعلّمها للعربية للعمل في الدار البيضاء، كممثّلة عن وزارة الخارجية الأمريكية. ولكن هناك رسخ في نفسها الإدراك بأنّها لا تريد العمل أكثر لصالح الحكومات. "كانت إحدى مهامّي تبذير أكبر قدر من المال في أقل وقت ممكن، كي يعتقد الكونغرس بأنّ هناك حاجة لذلك ويوافق على الميزانيات للعام القادم أيضًا. أردت القيام بشيء مبادِر، والعمل في الحكومة هو الأمر المعاكس تماما".
ذهبت مونتاوك للعمل في جوجل، لأنّ هذا ما قام به الجميع في تلك الفترة، "أرسل أخي سيرتي الذاتية". ومع ذلك، كانت ستّ سنوات دون العربية أكثر من اللازم بالنسبة لها. "تشوّقت للعربية وبدأت بالتفكير بعمل شيء يكون له تأثير ويمزج أيضًا بين العربية والتكنولوجيا. كان ذلك بعد الربيع العربيّ. اكتشفت أن هناك حركة لمبادرين عرب وبحثت عن طريقة للاندماج بذلك".
عثرت على وظيفة باحثة في الفرع الأردني لـ Wamda، وهو موقع متخصص بالتكنولوجيا في العالم العربي. أجرتْ مقابلات مع مستثمرين ومبادرين، وفي الطريق أيضًا أنشأت شبكة واسعة من العلاقات. بعد عام كان لديها عدد غير قليل من خيارات العمل الجذّابة. "كانت هناك خيارات في لبنان، مصر، ولكن جاء حينذاك الاقتراح من غزة، وبدا ذلك وكأنه الوظيفة الأكثر إثارة ممّا يمكن أن أعثر عليه".
ألم تخافي؟
"لم أكن في غزة ولا في الضفة ولم أكن أعرف ما يمكن توقّعه. عندما أقمتُ في الأردن زرتُ تل أبيب، ولكن لم أزر أماكن أخرى. فحصت خيار العمل في بيروت، ولكن الوضع هناك بدا لي غير مستقرّ، وفي مصر أقل من ذلك. أذكر أنّني تحديدًا اعتقدت في نفسي بأنّ غزة ستكون آمنة".
ذهبت مونتاوك إلى غزة في شهر تشرين الثاني عام 2013، وشعرت فورا وكأنها في البيت. "فهمت أن الغزّيين يتحدثون عن أمرين: الغذاء والتكنولوجيا، تماما مثل خليج سان فرانسيسكو. هنا أيضًا كانت المحادثات بشكل أساسيّ حول المطاعم، ماذا يأكلون، إذا كان لديّ آيفون أو أندرويد، وإذا كنت قد حمّلت التطبيق الجديد الرائع. من هذه الناحية شعرتُ كما لو كنتُ في البيت، وكان ذلك مألوفًا جدّا بالنسبة لي". من جميع النواحي الأخرى، كان الأمر مألوفا بنسبة أقلّ بكثير. "في الأسبوع الأول الذي وصلت فيه إلى هنا كان هناك قصف لسلاح الجوّ (الإسرائيلي). ظننت في البداية أنّ هذا ضجيج التصليحات، ولكن جميع الأشخاص الذين كانوا معي في المكتب فهموا ماذا يحدث فورا، وانبطحوا على الأرض.
كانت مكاتبنا جديدة، وكان أول ما قمت به عندما جئت هو حماية النوافذ بالزجاج المصفّح، ولكنّني لا أذكر بأنّني شعرت بفقدان الأمن".
"كانت الصدمة الأكبر هي عندما فهمت أنّه لا يوجد لدى الناس هنا حرية الحركة. لم أكن أبدا في مكان فيه أشخاص مقيّدون في حركتهم. وعندما نعمل مع مبادري "ستارت أب" فإنّ الأمر مهمّ، خصوصا عندما نرغب بالتوجه إلى أسواق أخرى ويجب العثور على مستثمرين وشركاء. عندما تمّت الموافقة على تصاريح خروج اصطحبنا المبادرين إلى الأردن واقتنص أحدهم الفرصة ليرى شقيقه، الذي لم يلتق به منذ 12 عاما. أوقفنا الحافلة وكان أمامهما نصف ساعة ليكونا سويّة، وهو أمر يمكن أن يحدث هنا فقط".
"ليس هذا وادي السيليكون، مكتبنا هنا متواضع جدّا، بارد في الشتاء وليس الأكثر راحة، ولكنّه مكان مليء بالطاقات وهذا هو المهمّ. والآن أيضًا هناك كهرباء طوال الوقت. حقا ليست لدي شكاوى، الأشخاص الذين ألتقي بهم هنا متفائلون ولا يشتكون إطلاقا من الوضع الذي يعيشون فيه".
وبسبب الترتيبات الأمنية المطلوبة من الموظفين الدوليين في غزة، تقضي مونتاوك نهاية الأسبوع في القدس . "في القدس ليست هناك حاجة إلى أن يذهب معنا الحراس إلى كل مكان"، كما قالت. يعطيني ذلك الفرصة للتعرّف على إسرائيل أيضًا. فوجئتُ أن أكتشف بأنّه هناك في إسرائيل أشخاص يعتقدون أنّ في غزة يعيش الإرهابيون فقط. ليس جميع الإسرائيليين كذلك، التقيت أيضًا بمتخصّصين في التكنولوجيا الفائقة ممّن اهتمّوا ورغبوا بالدعم، ولكنهم اليوم هم ممّن يخشى لقائي لأنّهم يخافون أن يتمّ اختطافهم ويتحوّلوا إلى جلعاد شاليط القادم. كان هناك من قال لي إنّ مبادري "ستارت أب" عندنا يطوّرون الصواريخ بالتأكيد".
"أعتقدُ أنّ هناك بشكل أساسي انعدامًا للفهم بين الطرفين. لا يفهم الناس الوضع في غزة، وبسبب ما يرونه في الأخبار، يعتقدون أنّ غزة هي مكان غير آمن حتى لو لم يكن هناك نزاع. واليوم والديَّ بالذات يتوتّرون أكثر في نهاية الأسبوع عندما أكون في القدس، لأنّه هناك أحداث عنف عشوائية لا يمكن توقّعها. يسألونني متخوّفين: "هل أنت في القدس"؟ فأجيبهما: "لا تقلقا؛ في الصباح سأعود إلى غزة".
حتى لا يُطفأ الضوء
Gaza Sky Geeks، هو برنامج تشجيع مبادري "ستارت أب" الأول في قطاع غزة، وقد تأسس عام 2011 من قبل ميرسي كوربس (Merci Corps)، وهي منظمة دولية تعمل في المناطق الفقيرة في العالم، ومرّت منذ ذلك الحين بالعديد من التحوّلات. في بداية الطريق اهتمّوا هناك بشكل أساسيّ بالتأهيل والتعرّف على المبادرين المحتملين في القطاع. في وقت لاحق، كان من المفترض أن يتحوّل البرنامج إلى فرع من برنامج تسريع مبادري "ستارت أب" الدولي، Startups، والذي يعمل فعليّا في بعض الدول العربيّة. ولكنّ المبادرة لم تبصر النور، لأنّه في تلك الفترة لم يحصل المبادرون على تصاريح خروج من غزة، ولم يكن باستطاعتهم الالتقاء بالمستثمرين والموجّهين في البرنامج.
ولكن في Gaza Sky Geeks لم ييأسوا، وقرّروا محاولة العمل بشكل مستقلّ. لقد حصلوا على تمويل سخيّ من جناح التبرّعات في جوجل، Google.org، وبمساعدة الأموال التي تدفّقت إليهم عقدوا الـ Startup Weekend، وهو ماراثون من 48 ساعة لمطوّري البرمجيّات الأول من نوعه في قطاع غزة. "لا يعلم الكثير من الناس هنا أبدا ماذا يعني "ستارت أب"، حتى أولئك الذين يدرسون علوم الحاسوب"، كما تقول مونتاوك. "أحضرنا إلى هنا الأمريكيين المشجّعين لحدث Startup Weekend، وقد أقاموا الماراثون هنا، كما يتمّ في جميع أنحاء العالم".
"جاء الناس مع أفكار وعملوا على منتجات. اكتشفنا أنّ هذه الطريقة هي الأفضل للعمل هنا. يأتي الناس لهذا الحدث، يتعلّمون ماذا يعني "ستارت أب"، ويحصلون على الإلهام، ويلتقون في أيام أخرى. تتحوّل بعض الأفكار التي يتم العمل عليها هناك، بعد ذلك، إلى شركات يمكننا مساعدتها، بل وخرجت من هناك شركات حصلت على استثمار بالفعل".
ومن بين مبادري "ستارت أب" الغزّيين المشاركين في البرنامج يمكننا أن نجد شبكة اجتماعية لهواة الرياضة (Datrios)، تطبيق لدعوة سيارات الأجرة وتقاسم السفر (Wasselni)، تطبيق "الشاشة الأخرى" الذي يصل بين هواة التلفزيون الذين يملكون أذواقًا مماثلة (Tevy) ونظام لتحليل البيانات للشركات والمؤسسات الكبيرة (DWBI). جنّد بعض الشركات بالفعل استثمارات أولية.
لا تعمل Gaza Sky Geeks بالوصفة المألوفة من برامج التشجيع، التي توفّر استثمارا أوليّا واستشارة مقابل نسب وأرباح مستقبلية. "نحن منظّمة غير ربحية. لا يمكننا الاستثمار بالشركات والحصول على نسب"، كما توضح مونتاوك. "عندما نتعاون مع المستثمرين، فهم يحتفظون لنا بجزء من النسب كي تساعد الأرباح المستقبلية في تغطية نفقات التشغيل".
مستثمرون إسرائيليون؟ في الوقت الراهن ليس واردًا
كانت مونتاوك في أحداث الصيف الأخير في غزة في ذروة الاستعدادات لحدث Startup Weekend، والذي عُقد في نهاية شهر حزيران. "كنتُ قد اعتدتُ على أوضاع كهذه. قبل بضعة أشهر من ذلك أخرجوني من غزة لبضعة أيام بسبب الحالة الأمنية. كانت المشكلة أنّه تمّت دعوة محكّمين من جميع أنحاء العالم، ولم نعرف ماذا نفعل. قرّرنا أن نقول إنّه يمكنهم الإقامة في القدس أو رام الله ، وفي صباح يوم الحدث، وفقا لحالة الصواريخ، سنقرّر إذا كان الوضع آمنًا بما يكفي لإقامة الحدث".
"بالطبع قلنا للجميع إنّنا سنتفهّم إذا ما قاموا بالإلغاء، وعلى أية حال، نحن نوصي دائما من يأتي لشراء تذكرة طيران أن تكون مع خيار الإلغاء، ففي غزة لا يمكن أبدا أن نعلم ماذا سيحدث. في النهاية حضر الجميع، وفي الصباح قرّرنا أنّ الوضع آمن بما يكفي لإقامة الحدث. كل من حضر قال إنّه شعر بالأمن بشكل تامّ، وأنّها كانت نهاية الأسبوع الأفضل بالنسبة له".
بعد الحدث، وبسبب تواصل تدهور الحالة الأمنية، اضطرّت مونتاوك أيضًا إلى مغادرة غزة، وعادت إليها فقط بعد وقف إطلاق النار.
ماذا وجدتِ في غزة عندما عدتِ؟
"المبادرون الستّون الذين ينتظرون لقائي. كنت واثقة بأنّ الجميع سيرغب بالحديث فقط عن الحرب ولن يستطيعوا التركيز على مبادرات "ستارت أب" الخاصة بهم على مدى أشهر، ولكنهم أرادوا فقط أن يعرفوا أية ردود حصلوا عليها من المستثمرين".
وأية ردود حصلوا عليها من المستثمرين؟
"لم يكن صعبا علينا العثور على مستثمرين لمبادري "ستارت أب" الذين كانوا ناضجين للاستثمار. يتحمّس المستثمرون للاستثمار في الشركات هنا".
أي نوع من المبادرات لديه شعبية في غزة؟
"يركّز الجميع الآن تقريبا في B2C؛ وهي مبادرات مخصّصة للمستخدمين من القطاع الخاص: الشبكات الاجتماعية، تطبيقات لإنشاء المحتوى وأشياء من هذا النوع... معظم الأشخاص هنا من الشباب، ولأنّه لا يوجد قطاع خاص حقيقي في غزة، فإنّهم لا يفكّرون بالمصالح التجارية باعتبارها زبائن".
ما هي الصعوبات الرئيسية لدى المبادرين في غزة، مقارنةً بالمبادرين الآخرين في العالم؟
"العقبة الرئيسية هي دون شكّ الانفصال عن العالم. حتى مع وجود كهرباء وإنترنت، فمعرفة الشخص الذي لم يكن يومًا خارج غزة مختلفة. يصعب عليهم أن يفهموا ماذا يوجد هناك في الخارج، حتى لو رأوه في التلفزيون. عندما اصطحبنا المبادرين إلى الأردن، كانوا مصدومين بسبب وجود كهرباء طوال اليوم. اللغة أيضًا لا تزال عقبة. ما زال يشعر نصف المبادرين براحة أكبر مع العربية مقارنة مع الإنجليزية. طلبوا منّا افتتاح صفوف لتعليم الإنجليزية، وسنبدأ بذلك".
كم من الوقت ستبقين في غزة؟
"لا أعلم حقيقة. أشعر أنّنا في بداية شيء يمكن أن يصبح كبيرا جدّا، وأنا معجبة بالأشخاص الذين أعمل معهم. أحبّ خليج سان فرانسيسكو كثيرا، وأتشوّق لأسرتي وللأصدقاء، ولكن سيكون من الصعب عليّ أن أغادر غزة. أحببت هذا المكان".