بقلم: عبد المجيد سويلم

ليس من المألوف لواحدٍ مثلي أن يكرس مقاله لمسألة تخص الكاتب نفسه.

لكنني سأستأذن الأستاذ رئيس التحرير هذه المرّة، لأكتب عن أخي محمد (أبو علي)، الذي وافته المنيّة قبل خمسة أيام، وذلك لأن الأمر يتعلق بالشأن العام من زوايا معيّنة.

يكبرني المرحوم بأربع عشرة سنة، وكان بالنسبة لي بمثابة الأخ والصديق والأب، أيضاً.

هاجر أبو علي إلى الكويت في بداية الستينات من القرن الماضي، وقدم الثانوية العامة المصرية هناك أثناء عمله كموظف بسيط في إحدى الشركات، ثم تعين موظفاً متوسطاً في أحد البنوك الكويتية.

ساعدته العائلة بقدر ما كان ممكناً في دراسته الجامعية في جامعة عين شمس، وعاد بعد التخرج ليصبح موظفاً كبيراً في نفس البنك.

ترقّى مع مرور السنين إلى أن وصل إلى أعلى المناصب، وأصبح متخصصاً في ترميم الفروع المتعثرة في إطار عمله في الدائرة الإقليمية، وبعد حصوله على التوقيع الدولي آنذاك. وكان يدير فرع الجهرة في آخر عمل رسمي له في البنك، إضافةً إلى الإشراف على بعض المكاتب والفروع الأخرى.

في نهاية ستينات القرن الماضي وسبعيناته كان أبو علي يتقاضى راتباً عالياً يزيد على سبعة أو ثمانية آلاف دولار تصرف كلها على إخوته وأخواته، وخصوصاً في مجال التعليم، حيث كان أولاده صغاراً بعد.

في كثير من الأشهر كان أبو علي يأخذ السُلف من البنك لاستكمال واجبات المساعدة على تعليمي دون أن يسأل ولا لمرة واحدة إن كنت أحتاج إلى المزيد من الأموال، لأنه كان يقوم بنفسه بالزيادة الدائمة.

بند ثابت من أمواله الشهرية كان لمساعدة كل من يحتاج من العائلة، وبند ثابت للفقراء والمحتاجين، اضافة إلى التبرع الدائم لأعمال الخير أينما كان «ضرورياً» من وجهة نظره.

لم تتغير بنود الصرف لديه حتى عندما كان راتبه يزيد على خمسة آلاف دينار كويتي في ثمانينات القرن الماضي، وخصوصاً بند استكمال تعليمي وإصراره عليّ بالحصول على أعلى الدرجات العلمية. ظلّ «يلاحقني» بالعطاء حتى عندما كان تعليمي شبه مجّاني، وفي سنوات عملي في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية.

ظلّ أبو علي يواصل الصرف عليّ قائلاً:

من المفترض أن معاشاتكم في المنظمة ليست كافية، فإذا واصلت قبول المساعدة فهذا يعني أنك ما زلت بعيداً عن «التلوث»، وأن عملك الوطني منزه عن الاعتبارات الخاصة، وأنك تستحق المعونة قبل أي فرد آخر من أفراد العائلة.

عندما دخلت القوات العراقية إلى الكويت طلب منه أحد كبار الضباط العراقيين تسليم الأموال في خزنة أحد الفروع الكبيرة للبنك، والتي كانت في عهدته، لكنه رفض بشدة، وأصرّ على استلام وصل رسمي من الحكومة العراقية بمبلغ يزيد على ستة ملايين دينار كويتي، واحتفظ بالوصل وسلّمه للحكومة الكويتية بعد عودة حكومتها الشرعية.

ردّ الكويتيون له الجميل، وعُيّن لعدة شهور كمدير لأحد البنوك التي تموّلها الكويت في عمّان، وأُحيل على التقاعد براتب كبير، كمكافأة له على أمانته وحرصه ووفائه للقيم الأصيلة للكويتيين.

لم تختلف قيمه ومبادؤه وعطاؤه حتى عندما وجد نفسه بعد عشرات السنين من العمل من دون أموال تزيد من قوته وقوت أسرته الكبيرة، وظلّ يُقدم المساعدة لأبناء إخوته وأخواته، حتى بالاستدانة من البنوك في سبيل استكمال رسالة العلم والتعليم للعائلة بروح للعطاء عزّ مثيلها.

سعادته الحقيقية كانت بالعطاء، واعتزازه الأكبر كان بالعلم والتعليم.

مساعدة الغير قيمة أصيلة في مشاعره وسلوكه وتعامله مع كل محيطه الاجتماعي.

لديه منظومة قيم لا تهتز مع الزمن ولا مع تغير الظروف. لا يجامل على حساب الحق مهما كلفه ذلك، ولا يبخل على أحد بطيب الكلام، خصوصاً إذا ابتغى من ورائه الصفح والصلح وإصلاح ذات البين.

عرفه العشرات وربما المئات من أصدقائي ومعارفي تاركاً فيهم انطباعات الوطنية والشهامة وتقاسم الهموم مع الناس والأهل والأقارب.

كان أبو علي عروبياً أصيلاً، ناصريّ الهوى وفلسطينيّ الفؤاد.

عرفت بعد عشرات السنين من عودته من الدراسة في مصر، أنه ما زال يتابع أخبار سيدةٍ في القاهرة، كان يسكن منزل عائلتها أثناء دراسته هناك، وظلّ يسأل عن صحتها وصحة أبنائها، ويساعدها مالياً حتى وفاتها، وفاءً لما قدمته له من مساعدة مالية بسيطة أثناء نكسة حزيران، وتقطّع السبل بالطلبة الفلسطينيين آنذاك لعدة شهور أعقبت الهزيمة، مع أن الرئيس الخالد جمال عبد الناصر أقرّ في حينه بكفالة كل طلبة فلسطين على نفقة الدولة إلى حين عودة الأمور إلى طبيعتها في ذلك الوقت.

عاد أبو علي إلى القاهرة ومعه أولاده ليعرّفهم على الحيّ الذي سكن فيه لأربع سنوات كاملة وليزور بيت تلك السيدة بعد موتها، التي تقاسمت معه لقمة عيش أولادها لعدة شهور بعد النكسة. أراد أن يلقّنهم على طريقته الخاصة درساً في الوفاء.

القيم التي ربّاها أبو علي لأولاده وأولاد إخوته وأخواته، والتي تربّيت عليها أنا، أيضاً، لأنني كنتُ من عداد أولاده بحكم فارق العمر هي الثروة الحقيقية التي قدمها لي، وليس فقط الأموال التي صرفها عليّ لسنوات وسنوات من دون حساب، أو انتظار مقابل، سوى القيم الأصيلة ذاتها التي كان يُؤمن بها، ويُمسك بناصيتها، ويتمسّك بها.

الغريب أنني لم أتعرّف على شخصية أخي أبو علي إلاّ بعد أن أصبحتُ في الأربعين من عمري.

إذ كان قد سافر إلى الكويت عندما كنتُ طفلاً، وعاد في صيف واحد إلى القرية قبل النكسة، ثم عاد إلى الكويت، ولم أتمكن من التعرف عليه عن قرب ولا لمرة واحدة.

فقط بعد العام 1990، عندما قرّر أن يستقرّ في الأردن، بدأت بالتعرف الحقيقي عليه، وبدأت أُدرك الخصال الراقية في شخصيته، وهذا القدر المدهش من الكرم والمهابة وحبّ الناس.

لا يعرف المكابرة أو التشدد، متسامح في الفكر والرأي والمعتقد، متنوّر شديد الإيمان بالعلم وقيمه في تطوير النشء والأجيال. لا أذكر أنني سمعتُ من أحدٍ كلمةً واحدةً سوى الثناء على شخصيته ومديحه، والشعور بفخر القرابة أو الجيرة أو مجرّد معرفته ولو عَرَضاً وبالصدفة.

يصادق أفقر الناس، ويستمع إلى أدق تفاصيل معاناتهم، وله من الصداقات مع علية الأقوام ما يثير الإعجاب، وما يبعث على الدهشة.

رحمك الله يا أبا علي، أيها الأخ والأب والصديق. فقد كنت الفلسطيني النموذج للكفاح والعصامية والعطاء، مثل آلاف الفلسطينيين الذين بنوا أنفسهم بالتعب والعرق والجهود المثابرة في أقسى الظروف وظلوا أوفياء لقيم التراحم والتكافل والتسامح والعطاء والوفاء.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد