يبدو بديهياً وبالضرورة أن يرتبط الإنتاج المعرفي والفكري والأدبي في فلسطين بالقضية الأسمى التي ارتبطت بها، بعد أن جاء الاستعمار وزرع  مستوطنين ومكّنهم حتى يقتلوا ويهّجروا سكان البلاد ويدمروا ما استطاعوا من مدنهم وقراهم، ويقيموا على أنقاضها دولة لهم. وأجزم أن أي فلسطيني لا يمكن له أن يتجاهل هذه الحقيقة أو أن يتصور عالماً يخلو من تلك النكبة . والأدب الفلسطيني كما كل تجليات الإبداع الفني التي أطلقها الفلسطينيون عبّر بقوة عن هذا الارتباط حتى حين كان يتم استحضار الذاتي والفردي في النصوص والممارسات. وبالعودة إلى قرون مضت، فإن الفن والفولكلور الفلسطينيَّين ارتبطا أكثر من غيرهما في بقاع كثيرة في العالم بالطبيعة وألوانها وتعدد المناخ في البلاد، وبالحكايات الضاربة في القدم قبل ظهور الأديان. وأن الحضارة والمدنية بدأتا هنا كما اختراع الأبجدية والأصباغ وركوب البحر وغيرها. كل ذلك يشير بقوة إلى ضرورات ارتباط المنتج المعرفي والأدبي والفني في فلسطين بحكايات الأرض الأصلية.


هذا يبدو ضرورياً حين يتم طرح السؤال الأساس حول دور الثقافة، وحول تعريفنا لهذا الدور ولعلاقة المؤسسة الرسمية سواء كانت ثورة أو سلطة، لأن في جوهر الإجابة عن هذه الأسئلة يجب التوقف ملياً حول هذه البديهيات، ولأن القفز عنها يقود إلى إجابات مغلوطة تجعل من دعاوى الدور الفضفاض والمهلهل، استناداً إلى رؤى بعيدة عن تاريخ الشعب وعن طبيعة نتاجه الفكري، مشروعة، بل يصل الحد عند البعض للتباهي بها، من باب أن دور الثقافة ليس الحفاظ على الحكاية الوطنية، بل التعبير عن هموم الناس الآنية. ومن ينظر بين قدميه لا يرى عمق الجذور كما لا يرى آفاق المستقبل الحقيقية. إنه ذات السؤال الذي يمكن أن يثور في عقل المبدع حول «لماذا أكتب؟» و»لماذا أرسم؟» وكل الـ»لماذا» ترتبط بالفعل الإبداعي. وهي أسئلة ذاتها تثور في عقل المبدع في كل مكان. ومن المؤكد أن ثمة إجابات متقاطعة تتعلق بالرؤى الفنية وفهم المبدع للفن ودوره، ولكن في الحالة الفلسطينية ثمة ما يرتبط بالسياق الخاص للقضية الوطنية الفلسطينية. فأنا أريد أن أكتب رواية وأريد أن أمجد الحياة، وأريد أن أمجد الإنسان القادر على تحمل كل آلام الواقع والحالم بعالم أفضل، لكنني لا أريد أن أفعل ذلك في سياق افتراضي ولا في عالم منزوع الجذور، بل أريد أن يكون ما أكتبه جزءاً من واقعي الذي أعيش فيه لا ما يعيشه الآخرون، كما لا أريد لما أكتب أن يكون خطاباً سياسياً صرفاً لأن الساسة أفضل مني في تحريك الجمهور إذا كان هذا ما أرمي إليه.


وربما أن هذا الارتباط ليس بحاجة لتفسير ولا لإقناع بقدر الالتفات إلى المحافظة عليه، خاصة في ظل الحرب الشرسة التي تتم على الرواية ومحاولة تدجين الرواية المضادة في الوعي العربي. حقيقة أن دولة المستعمرين باتت دولة قوية وتمتلك ترسانة نووية لا يغير من الحكاية شيئاً، وربما حقيقة أن الكثير من دول العالم، والآن بعض منها من الأشقاء، يصدقون، أو يتظاهرون بأنهم يصدقون، رواية القاتل عن بلاد المقتول، أيضاً لا يغير شيئاً في الأمر، بل يثير أسئلة أكبر عن أصل الحكاية. وربما في موضع آخر يمكن لطفل فلسطيني في إحدى مدارس وكالة الغوث في مخيم جباليا أو اليرموك أن يهز رأسه نفياً أو إنكاراً لوجود مسميات يعترف بها الغير بقوة أو أن يظل وحده على وجه الكوكب مقتنعاً بأن يافا هي مدينته، وأن قوة في الأرض لا يمكن أن تجعل منها «يافو» أو تل أبيب.  


ما لا يبدو بديهياً أن يتم المساس بهذه الرواية بأي حال من الأحوال. وأن ثمة هرولة عربية وعناقاً قاتلاً مع العدو ورغبة في تمريغ الكرامة الذاتية في وحل التطبيع يجب أن تواجه بقوة من قبل ثقافة عرفت بصلابتها وقوة حضورها العميق والمتجذر. ربما العرب وحدهم من يقرؤون شعراً عمره أكثر من سبعة عشر قرناً من الزمن كما كتب وقتها، وربما وحدهم من لديهم نصوص كتب كما هي وتقرأ في المدارس حتى اللحظة يزيد عمرها على ألف عام. هذه القوة وهذه الصلابة لا يمكن أن تهزمها رواية مزيفة إلا بالرضا والخنوع. وهذان ما يجب أن يقلقنا حين ننظر إلى ما يجري حولنا في المنطقة العربية.


وبالعودة إلى نقاشنا الأول، فإن أساس تمسك الكاتب والفنان الفلسطيني بجوهر الحكاية، وتمسك المؤسسة بدور الثقافة القائم على الحفاظ على هذه الحكاية وحماية الموروث وتعميمهما، هو حجر الرحى في مقاومة كل محاولات بث سموم الرواية المضادة في الثقافة العربية. ربما أكثر ما يحزن المرء هو الهدايا المجانية التي يمكن تقديمها للعدو في سياق صياغة المواقف والمواقف المضادة. ومع هذا فإن الأساس هو التأكيد على الدور المنوط بالثقافة وبالمنتج المعرفي والفكري والأدبي الفلسطيني، وارتباط ذلك بالحكاية الوطنية مع التأكيد على إنسانية وفنية ما يتم إنتاجه حتى لا يتحول الأمر إلى شعارات. ولا يعيب المرء أن يدافع عن أهله بالقلم والصورة والأغنية، ما يعيبه أن تختفي حكاية أهله لأن أحداً لم يتطوع أو يبادر أو يشعر، وهذا الأهم بالمسؤولية لحفظ هذه الحكاية.


هكذا، فإن الراهن هو نتاج فهمنا لطبيعة دورنا في المجتمع ولطبيعة العلاقات التي يفترض أنها تحكم هذه الطبيعة ومواقعنا فيها. والصراع الثقافي لا يمس فقط الوجود الفلسطيني والحكاية الفلسطينية على هذه الأرض، بل الحكاية العربية، وربما علينا ألا ننتظر كثيراً حتى يرتد التطبيع على أصحابه ويجدون أنفسهم في مصائد وحبائل لا يفلتون بها تمس وجودهم على البقاع التي يسكنون. ومع هذا سيظل الفلسطيني حارس الحكاية العربية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد