انطلقت جامعة الدول العربية كمنظمة لتوثيق العلاقات بين الدول الأعضاء، وتنسيق التعاون بينها للحفاظ على استقلالها وسيادتها، والنظر بشكل عام في شؤون ومصالح الدول العربية، وتوحيدها وتقويتها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ضد تدخلات القوى الاستعمارية، وتحرير فلسطين وحماية المنطقة من المشروع الصهيوني. لكنها أخفقت في تحقيق هذه الاهداف بل وفي تحقيق أسس الامن القومي العربي في حماية الارض والموارد، وتنمية الانسان العربي، والحفاظ على القرار العربي المستقل بعيداً عن نفوذ قوى الاستعمار.
منذ تأسيسها لم تتمكن الجامعة العربية من اصدار قرارات ترتقي الى مستوى القضايا والطموحات العربية او تقديم حلول لمعالجة أزمات الوطن العربي. وعلى العكس كان لقراراتها أحياناً تأثير سلبي على مصير العالم العربي لأنها تحولت من إطارٍ جامعٍ للعرب الى أداة لشرعنة الحروب على بعض الدول العربية والمساهمة في تدميرها وفي تمزيقها حيث عاقبت بعضها بتعليق عضويتها في الجامعة كما حدث مع ليبيا وسوريا، ودعمت عدوان دول عربية ضد أخرى كما حدث مع اليمن.
لم يكن القرار عربياً بل كان تنفيذاً لإرادة القوى الغربية، التي ارادت التلاعب بالشعوب العربية وانظمتها بعد وقوع الاضطرابات لهندسة تغيير النظم التي تعتبرها غير ملائمة لمصالحها الاستراتيجية الغربية. ومن اجل عدم التعرض للنقد المحلي والدولي، كان لا بد من اظهار هذا التدخل بانه يحظى بدعم عربي، فلم تجد أفضل من الجامعة العربية لتغليف اجندتها. وكان سينظر الى تدخل القوى الغربية دون موافقة الجامعة العربية على انه اعادة انتاج للاستعمار القديم، ولكن موافقة الجامعة بذريعة حماية المدنيين أضفي عليه طابعاً من الشرعية.
صارت المعادلة تعتمد على إثارة العنف وعدم الاستقرار داخل البلد المختار، وتسليح الجماعات المنشقة، وتوجيه هذه المجموعات بقوات خاصة سرية؛ وعندما تتحرك أجهزة الدولة المستهدفة لاحتواء العنف يتم اتهامها بانتهاك حقوق الإنسان. ثم تقوم جامعة الدول العربية بعد ذلك بتعليق عضوية الدولة، واصفة إياها بأنها منبوذة دولياً، الأمر الذي يوفر بدوره ذريعة للقوى الغربية لشن ضربات عسكرية، وارتكاب فظائع باسم حماية المدنيين، لتقوم بتغيير النظام وفقاً لمصالحها، فيتحول التدخل الى استعمار جديد للأراضي العربية بمساعدة دول عربية أخرى.
كانت ليبيا نموذجاً لهذه السقطة وتكرر الامر مع سوريا، حيث قامت بتعليق عضوية ليبيا عام 2011 على اثر الاضطرابات التي اندلعت فيها. وفي نفس العام تم تعليق عضوية سوريا التي كانت احدى الدول العربية المؤسسة للجامعة عام 1945. وقام الناتو باستخدام الضوء الاخضر العربي لشن حرب خاطفة ضد ليبيا وقصفها بشكل مكثف مما أسفر عن مقتل الآلاف من المدنيين، وهي جريمة تمت بمساعدة أيادي عربية تلطخت بدماء الأبرياء. وفي سوريا حضرت جامعة الدول العربية حيث قدمت اقتراح في مجلس الأمن بهدف تقييد حكومة الأسد وإعدادها للتدخل العسكري لحلف الناتو على غرار ليبيا، ولكن الفيتو الروسي الصيني أفسد تلك الخطة.
تحولت جامعة الدول العربية بقصد أو لسوء تقدير الى اداة يتم توظيفها غربياً لشرعنة التدخل وتدمير دول المنطقة العربية الواحدة تلو الاخرى، فساهمت في ادخال الاستعمار الاجنبي مجدداً الى هذه الدول دون ان يكون لها أي دور في مرحلة ما بعد اسقاط انظمة هذه الدول. وما زالت ليبيا تعيش الحرب الاهلية والتدخل الاجنبي، وما زالت سوريا تدفع ثمناً كبيراً في ظل عجز الجامعة عن تحريك ساكن بعد ان ساهمت سياساتها في ادخال الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وايران اليها، ولم يخرج العرب الا بدمار حواضرهم. وليس بعيداً عنهما العراق الذي يعاني الفوضى والحرب الاهلية والفساد دون قدرة لهذه الجامعة على مساعدة الشعب العراقي. ولا زالت اليمن وشعبها يدفعان ثمن حرب لم تحقق من اهدافها الا تدمير اليمن فلا الحوثي انهزم ولا تراجع النفوذ الايراني فيها. وليس بعيداً الصومال التي ما زالت تعاني الفقر والحرب الأهلية.
ليس بعيداً عن هذه المعادلة ما فعله نظام محمد بن زايد في الامارات عندما قبل بعقد سلام مع اسرائيل التي تحتل القدس اولى القبلتين وثالث الحرمين وباقي الاراضي الفلسطينية، وتشرد الشعب الفلسطيني وتقتله للتقرب من الصهاينة مقابل خدمات لبقاء نظامه، فاسرائيل ومواليها في الكونغرس سيدافعون عن بن زايد وتدخلاته في المنطقة ونظامه السلطوي في حال فوز الديمقراطيين، واسرائيل ذاتها ستساعد ترامب مع الامارات وغيرها للفوز بفترة رئاسية جديدة للحفاظ على الدكتاتوريات العربية مقابل التطبيع مع اسرائيل وبيع القضية الفلسطينية، اما حجج التكنلوجيا والاقتصاد فهذا يمكن ان تجده الامارات مع كثير من دول العالم.
وكان للجامعة اخفاقاً جديداً باصطفافها مؤخراً الى جانب الامارات من خلال رفض ادانة التطبيع الاماراتي المجاني مع استمرار الاحتلال الصهيوني للاراضي الفلسطينية والعربية، والذي يعني القبول بضياع الحقوق الفلسطينية، وتبني مسار يقود الى تصفية القضية الفلسطينية سواء عن قصد او نتيجة لحالة الضعف العربي بما يتعارض مع الحقوق التي أقرتها الشرعية الدولية. وليس هذا الدعم للتطبيع الاماراتي الا مقايضة للحقوق الفلسطينية مقابل بقاء أنظمة مجموعة من الحكام الديكتاتوريين العرب، حيث يحاول هؤلاء الحكام فعل المستطاع ولو على حساب حقوق اشقائهم الفلسطينيين لاعادة انتخاب ترامب، الذي وعدهم باستمرار الاعتراف بشرعية انظمتهم، وتقليص فرص فوز الديمقراطي بايدن الذي توعد انظمتهم الديكتاتورية حال فوزه.
تم بيع الوهم للعرب باستدعاء فزاعة ايران، والترويج لاقامة تحالف عربي صهيوني لمواجهة ايران. وهذا ليس الا خداع لتمكين الاحتلال الصهيوني من دخول الاراضي العربية؛ فحال فوز المرشح الديمقراطي وإعادة تفعيل الاتفاق النووي سندرك بأن الهدف ليس ايران المطلوب احتوائها فقط، وانما التمدد الصهيوني في المنطقة في اطار الهدف الاستراتيجي الامريكي المتمثل في تنفيذ خارطة الطريق العسكرية الامريكية الغربية والتي تذهب إلى أبعد من إعادة صياغة الشرق الأوسط، الى الهيمنة على مناطق الشرق الأوسط وآسيا الوسطى الواسعة المنتجة للطاقة والذي يعد أمراً حاسماً لتهميش المنافسين ذوي الوزن الثقيل وتحديداً روسيا و الصين في اطار الاعداد للحرب العالمية الثالثة وفقاً لـ"ميشيل شوسودوفسكي" في كتابه الجديد "نحو سيناريو الحرب العالمية الثالثة".
عندما تثور الشعوب العربية مجدداً، سيدرك القادة العرب ان الولايات المتحدة واسرائيل انما كانتا تقودهم الى حتفهم بتعريتهم اماما شعوبهم من خلال دفعهم الى مسار التطبيع وادارة الظهر لمشاهد قتل اشقائهم الفلسطينيين، واغتصاب حقوقهم ومقدساتهم، ومن خلال طمأنتهم الخادعة بحصانة أنظمنهم حتى لو تعارض سلوكها مع حقوق الانسان وارادة شعوبهم في الحرية والحياة الكريمة، وليست تجربة الربيع العربي ببعيدة. وسيفهم العرب حينها انهم تركوا الشعب الفلسطيني يقاتل وحده، وانه كان عليهم احترام ارادة شعوبهم، ومساندة بعضهم بعضاً، وتحقيق الوحدة، والتصدي للاحتلال الصهيوني كأبرز مهدد لاستقرار المنطقة ونموها وتقدمها بل وتفوقها، وسيدركون ان مسايرة ومجاملة مغتصب للسلطة يستمد قوته من التخديم على السياسات الاستعمارية الامريكية والاسرائيلية في المنطقة انما هي وصفة لهلاكهم ولاشعال النار مجدداً في بلادهم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية