كما يحدث عادة حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، ويتم عرض مشروع قرار خاص بها في مجلس الأمن، فإن الاتصالات التي تسبق اجتماع مندوبي الدول الأعضاء، تكون على قدم وساق وموضوع جذب وشد بين المندوبين. حدث هذا، أول من أمس، في أروقة جامعة الدول العربية، حين انعقد اجتماع مندوبي الدول العربية الأعضاء في الجامعة، والتمهيدي عادةً لاجتماع وزراء الخارجية الذي سينعقد اليوم في مقر الجامعة.
محور الاتصالات كان بالطبع الاتفاق الإماراتي - الإسرائيلي، المعلن عنه في الثالث عشر من الشهر الماضي، والذي ينص على اعتراف دولة الإمارات العربية بدولة إسرائيل، والاتفاق بينهما على عقد تحالف أمني، وإقامة علاقات تجارية في كافة المجالات، وذلك لتحديد طبيعة الموقف العربي من الاتفاق المذكور، والذي لا يمكن تجاهله، رغم أن الجامعة تجاوزت الطبيعة الحادة والفورية للموقف، الذي كان من شأنه أن يعرقل أو حتى يجبر الدولة العضو في الجامعة على التراجع عن اتفاق خارج عن الإجماع العربي الثابت منذ عقود، والذي كان يمكن أن يحدث لو أن الجامعة استجابت لطلب دولة فلسطين العضو الأصيل في الجامعة بعقد دورة استثنائية، فور إعلان الاتفاق الشهر الماضي.


وحيث إن احتمال إجبار أو مطالبة الإمارات بالتراجع عن الاتفاق وعدم توقيعه رسمياً، لم يعد وارداً، فإن المعركة التالية، أي التي تجري الآن، والتي هي مدار الجدل في اجتماع المندوبين ومن ثم وزراء الخارجية، هي حول وضع حد للطموح الإسرائيلي - الأميركي بألا يتجاوز الاتفاق مع الإمارات الدولة العربية التي تفردت بالموقف تجاه إسرائيل، ليتحول إلى حجر دومينو، يدفع دولاً عربية أخرى للإقدام تباعاً، خلال الأشهر القليلة القادمة، للسير على الطريق نفسه الذي سارت عليه الإمارات، حيث يتوقع أن تتبعها دولة البحرين بدرجة شبه مؤكدة، وربما سلطنة عُمان، وباحتمال أقل دول أخرى من خارج إطار مجلس التعاون الخليجي.


ما يرجح هذا الاحتمال هو تجنّد مندوب البحرين، إلى جانب مندوب الإمارات، للدفاع عن الاتفاق الإماراتي - الإسرائيلي في الحوار بين المندوبين، والمعروف هو أن البحرين كانت قد استجابت لمحاولات البيت الأبيض العام الماضي إنقاذ صفقة ترامب، وفتحت الطريق لها، باستضافة المؤتمر الذي أداره جاريد كوشنر عراب الصفقة، المستشار السياسي للبيت الأبيض وصهر دونالد ترامب، حيث حاول المندوبان الإماراتي والبحريني إغلاق الباب أمام حتى انتقاد الاتفاق بتقديم مبررات واهية، منها أن الموقف الإماراتي يندرج ضمن مسار سيادة الدول، فإذا كان اعتراف متفرد بدولة إسرائيل، التي هي عدوةُ أكثر من دولة عربية إن لم تكن عدوةَ العالم العربي كله، وإقامة تحالف أمني معها، والتي تحتل أرض دولة فلسطين وأراضي دولتين عربيتين أخريين، لا تأخذه دولة عربية بعين الاعتبار حين تُقدِم منفردة على التحالف معها، فما الحاجة لوجود جامعة الدول العربية؟ ثم لماذا وافقت الإمارات والبحرين طول عقدين من السنين على المبادرة العربية؟ بل لماذا لم تقم الإمارات أولاً بطرح نيتها عقد الاتفاق مع إسرائيل على مجلس الجامعة، أو أنها طالبت بأن تكون في حل من المبادرة العربية؟ ذلك أن سيادة الدول لا تعني التفرد تماماً باتخاذ مثل هذا الموقف الانقلابي، في السياسة التي تجمع عليها الدول العربية، وفي حال إصرار دولة ما على "سيادتها" مقابل الموقف الجماعي تكون أمام أحد خيارين لا ثالث لهما، وهما: إما أن تنسجم مع الموقف الجماعي، أو تنسحب من الجامعة.


في الحقيقة لو كانت الجامعة العربية إطاراً قوياً، أو ملزماً للدول بشكل جدي على احترام مواقفها وقرارتها، فإنها كانت ستقدم على إجبار الإمارات على التراجع عن اتفاقها أو طردها من الجامعة، لكن والحالة هي غير ذلك، فليس أقله من القول: إن قرار الإمارات خارج عن المبادرة العربية ومتفرد، وضار بهيبة ومكانة الجامعة، وعلى أقل تقدير ضمان أن تصدُق الإمارات في قولها: إنها سعت إلى تحقيق مكسب ما للقضية الفلسطينية إلى جانب تحقيق مصالحها الخاصة، وفق منطق سيادتها كدولة، من مثل أن يصدر قرار من الجامعة، ينص على إلغاء الإمارات للاتفاق في حال إقدام إسرائيل على إعلان وتنفيذ خطة ضم الأرض الفلسطينية.


الموقف الفلسطيني رغم المرارة التي نشعر بها، لم يتطيّر ولم يشنّ حرباً إعلامية أو سياسية على الإمارات بسبب هذا الاتفاق الذي شجع فوراً دولتَي صربيا وكوسوفو لنقل سفارتَي بلديهما إلى القدس المحتلة، وهذا يؤكد الضرر الفادح الذي ألحقه والذي سيلحقه الاتفاق بالحقوق الفلسطينية في القدس وفي الأرض الفلسطينية المحتلة، وكذلك في الكفاح من أجل انتزاع الدولة المستقلة من بين أنياب الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.
والموقف الفلسطيني لا يطالب الإمارات - التي تذكرت فجأة أنه يمكنها أن تتخذ ما يؤكد سيادتها كدولة على حساب الحقوق الفلسطينية - بالتراجع عن الاتفاق، ويكتفي باتخاذ الجامعة موقفاً يؤكد المبادرة العربية، التي تتلخص في أن إقامة الدول العربية علاقات طبيعية مع إسرائيل مشروطة بانسحابها من الأرض المحتلة عام 67 وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا بالمناسبة موقف كانت اتخذت مثيلاً له الأمم المتحدة حين اعترفت بدولة إسرائيل عام 48، حيث كان الاعتراف مشروطاً بإقامة دولة فلسطين وفق قرار التقسيم.


الضرر الآخر سيلحق بالجامعة العربية نفسها، وبجوهر التضامن العربي؛ فما تقدم عليه الإمارات والبحرين اليوم من موقف خاص أو ذاتي أو متفرد، رغم أنه يضر بأشقائها، فإنه سي فتح الباب لاحقاً، وربما في يوم من الأيام لتتعرض هي لنفس الموقف، فلو احتلت إيران مثلاً أو أي دولة أخرى، أرضاً إماراتية أو لو تم احتلال البحرين من قبل دولة أخرى، فإنه لا فلسطين ولا الدول العربية الأخرى ستكون معنية بنجدة شقيقتها، لأنه سبق لها أن أدارت ظهرها لشقيقاتها، والجزاء من جنس العمل، وقد سبق للدول العربية أن حاربت ضد شقيق عربي لأنه احتل بلداً عربياً آخر، نقصد حين احتل العراق الكويت، لكن المشكلة تكمن في أن بعض الدول العربية يرتبط بالموقف الأميركي والإسرائيلي، أكثر من ارتباطه أو اهتمامه بمصالح الأشقاء العرب، بل وأكثر بكثير من الاهتمام بمصلحة الشعوب العربية والأمة العربية.


هو فصل من صراع سياسي سيشجع إسرائيل على إشعال حرب في الخليج مع إيران، تحوّل كلاً من الإمارات والبحرين بالذات إلى ساحة حرب، حيث ستكتشفان بعد فوات الأوان أنهما قد هربتا من الرمضاء للنار، وأن إسرائيل ما هي إلا ذئب في ثوب الحمل، وعدو لهما أكثر مما هي صديق، وإن غداً لناظره قريب.
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد