منذ إعلان منظمة الصحة العالمية بأن فيروس كورونا المستجد" كوفيد-19" أصبح وباءً عالميا، ظل قطاع غزة قلب فلسطين النابض بعيد تماما عن بؤرة تفشي هذا الفيروس، ويرجع ذلك لأسباب عدة يعلمها الجميع، أبرزها سياسات الاحتلال الإسرائيلي العقابية تجاه أهل غزة والحصار الخانق المفروض عليهم منذ اندلاع شرارة " انتفاضة الأقصى " أواخر العام 2000.

فقد تسبب الحصار في كوارث طالت الأخضر واليابس ولم يسلم منها البشر ولا الحجر في ظل صمت مطبق من العالم وقواه الحية وفعالياته كافة. كما أن تداعياته أدت إلى شلل شبه تام شملت مناحي الحياة كافة، بمن فيها المنظومة الصحية القائمة التي أصبحت تعاني من تصدعات خطيرة مست قدرة المرافق الصحية على أداء وظائفها الرئيسية لجمهور المرتفقين .

وبدون أدنى شك انعكست آثار الحصار الخانق سلبا على مختلف أركان المنظومة الصحية "السلطات المختصة-المرافق الطبية- مستشفيات - مراكز صحية - أطباء - ممرضين - أطر صحة "، زيادة عن ذلك النقص الشديد في الأدوية والمعدات والأجهزة والمستلزمات الطبية، وهو ما أثر سلبا على حق المرضى في الحصول على العلاج المناسب خاصة الذين يعانون من الأمراض المزمنة والخطيرة، حيث تركوا يواجهون مصيرا غامضا أمام صمت العالم أجمع.

هذا ما دفع الخبراء والمختصين والمنظمات الدولية ذات العلاقة يطلقون نداءات استغاثة ويناشدون المجتمع الدولي للتدخل العاجل لحماية المنظومة الصحية من الانهيار بفعل الضغط الرهيب الحاصل عليها جراء سياسات الحصار الخانق.

ومن جانب أخر، اتخذت السلطات المختصة بعض الإجراءات الاحترازية لمنع وصول هذا الوباء إلى القطاع، وقامت بتخصيص مراكز للحجر الصحي لعزل المواطنين القادمين إلى قطاع غزة سواء عبر معبر رفح أو من خلال معبر بيت حانون، ومن ثم يغادر الشخص إلى بيته بعد قضاءه لفترة الحجر الصحي المقررة طبقا لبرتوكول منظمة الصحة العالمية، وبعد أن يتبين من خلال الفحص الطبي النهائي أنه غير مصاب ومعافى تماما.

هكذا بقي الوضع الصحي تحت السيطرة وظل قطاع غزة خالي من أي بؤر وبائية بفضل الله تعالى، وجميع الحالات المصابة التي يتم اكتشافها تعود لأشخاص قدموا من الخارج عبر المعابر التي تربط غزة بالعالم "معبر رفح البري- معبر بيت حانون"، أثناء قضاهم لفترة الحجر الإلزامي في مراكز العزل المخصصة من طرف السلطات المختصة.

وظلت السلطات الصحية المختصة تراقب الوضع الوبائي عن كثب خوفا من تسلل الفيروس لسكان القطاع المحاصرين، ولسوء الحظ هذا الحال لم يصمد طويلا، وحصل التطور الذي لم يكن بالحسبان حينما أعلنت مساء يوم الاثنين الموافق 25-08-2020، عن إصابة أربع مواطنين من عائلة واحدة تقطن في مخيم المغازي وسط القطاع بفيروس كورونا المستجد، وهم من الأفراد الغير محجورين صحيا في داخل مراكز الحجر الصحي التي حددتها الجهات المختصة لعزل المواطنين القادمين لغزة منذ بداية الأزمة.

وتكمن خطورة هذا التطور الصحي أنه تزامن مع حملة تصعيد من قبل الاحتلال وتشديده للحصار القاسي على قطاع غزة الذي أدى إلى شل مناحي الحياة كافة " اغلاق المعابر- انقطاع المياه- تخفيض كمية الكهرباء-منع الصيادين- نقص المواد الأساسية وغيرها من الإجراءات العقابية التي لا تعد ولا تحصى.

فضلا عن هذا، معاناة المنظومة الصحية وتآكلها نتيجة الضغط الشديد عليها كما أسلفنا الذكر، هذا إلى جانب النقص الشديد بالفرق الطبية المختصة بأمراض الجهاز التنفسي وأجهزة التنفس الصناعي، والمعدات والمستلزمات الطبية في هذا الشأن.

وفرضت هذه التطورات نفسها على السلطات المختصة، حيث أعلنت عن حظر التجول ودعت المواطنين لالتزام منازلهم وعدم مغادرتها إلا للضرورة القصوى، وكما فرضت الإغلاق الشامل لكافة الأنشطة التجارية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي ينذر بكارثة حقيقية على المستوى الاجتماعي، بسبب اعتماد فئات كبيرة من العمال على أسلوب العمل اليومي لتوفير لقمة العيش لهم ولعائلتهم، كما أن هناك عائلات كثيرة "كريمة" تعاني من فقر مدقع لا تكاد تجد ما يسد رمق أطفالها، ناهيك عن أزمة انقطاع الماء والكهرباء المتواصل عن معظم مناطق القطاع.

دائما وأبدا يظل الجانب الاجتماعي حاضرا بكل جوانبه وتفاصيله، نظرا لزيادة أعداد الفقراء وتضخم الفقر في قطاع غزة التي وصلت إلى نسبة 75% بحسب تقديرات وزارة التنمية الاجتماعية والمنظمات الدولية ذات العلاقة، وأصبح ما يقارب 70% من سكان القطاع غير آمنين غذائيا، وذلك بسبب توقف عجلة النشاط الاقتصادي والصناعي والحرفي بفعل الحصار الخانق والأزمات التي عصفت بالقطاع لسنوات عديدة، بما فيها "، أزمة رواتب الموظفين العمومين والمتقاعدين المدنيين والعكسريين ومخصصات الشؤون الاجتماعية ...إلخ.

كل هذا يفرض على أهالي قطاع غزة الرهان على أنفسهم لمنع تفاقم الأوضاع الاجتماعية واتباع نموذج تضامني لمؤازرة المحتاجين ومساعدة الأسر الهشة، وهذا الأمر ليس ببعيد عنهم فهم أهل للكرم والجود والشهامة والنخوة، تظهر معادنهم في الأزمات والشدائد وهذه هي خصائص الرجال كما عاهدناهم قلب فلسطين النابض.

كما تقتضي خطورة المرحلة من الجهات القائمة على إدارة شؤون قطاع غزة تحمل مسؤوليتها كاملة في هذا الشأن، والتنسيق مع مختلف الفعاليات المجتمعية والتجار ووجهاء المجتمع لوضع التصورات والبرامج اللازمة لمؤازرة الفئات الهشة ودعم الأسر المعوزة من المجتمع، وتوفير الحد الأدني من احتياجاتهم الأساسية " غذاء-ماء-دواء "، ومراقبة الأسواق والمحلات التجارية والصيدليات، لضبط تجار الأزمات الذين يستغلون الظروف لاحتكار المنتوجات والسلع الأساسية والتلاعب في أسعارها بما يتناسب مع أنانيتهم وجشعهم في ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر منها بلدنا.

وكما يفرض الواجب الوطني على هذه الفئة الحفاظ على استقرار الأسعار، وعدم احتكار السلع والمنتجات، والمساهمة بتحمل الأعباء مع المواطن المطحون والمبادرة بحملة تخفيضات تراعي الوضع الاقتصادي للمستهلك وخصوصية الحالة التي يمر منها المجتمع.

في هذا الصدد، تفرض حساسية المرحلة على السلطات المختصة تعئبة كل الطاقات لضمان تمويل أسواق الجملة والمحلات التجارية ومحلات البقالة بالسلع والمنتجات الأساسية بشكل مستمر وبالأسعار المناسبة وتهيئة الظروف أمام كل المتدخلين للقيام بذلك دون معيقات أو عراقيل تذكر.

وكما يتطلب الواجب الوطني والأخلاقي والإنساني من فصائل العمل الوطني والقوى الإسلامية ولجان الزكاة وجمعيات المجتمع المدني والفعاليات المجتمعية كافة تحمل مسؤوليتها الوطنية والأخلاقية باعتبارها جزءًا من القوى الحية للمجتمع، والتحرك بأقصى سرعة لتقديم الدعم للأسر المتعففة والمعوزة، ونشر ثقافة المحبة وتجسيد قيم التضامن والتعاضد بين مكونات المجتمع باعتبارها من أبرز سمات شعبنا الفلسطيني.

يعتبر التضامن بمثابة السياج الذي يحمي المجتمعات ويقوي من مناعتها في مواجهة الأزمات والكوارث المحدقة بها، لذلك نحتاج إلى إبراز قيم المواطنة بأسمى صورها من خلال تقديم التضحيات ونشر ثقافة التضامن والتكاتف الوطني في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر، فضلا عن تجسيد حكمة المنطق ولغة الحوار على أرض الواقع لما لهما من بالغ الأثر في حماية النسيج الاقتصادي والاجتماعي لمجتمعنا، والتعزيز من قدرته على مواجهة الفيروسات فوق هذه الأرض سواء اتخذ الفيروس شكل وباء أو شكل احتلال أو أشكال أخرى كلنا نعي خطورتها تماماً.

وتجدر الإشارة، إلى أن منظمة الصحة العالمية حددت برتوكولا صحيا منذ بداية تفشي وباء كوفيد-19 يتضمن مجموعة من التدابير للوقاية منه، أبرزها التباعد الاجتماعي وإتباع اجراءات الوقاية والسلامة الشخصية، وكما أكدت على ضرورة تخصيص أماكن خاصة لعزل الأشخاص المصابين وتوفير فرق طبية لرعايتهم وعلاجهم وفق البرتوكولات المعتمدة .

ونشير إلى أن وجود تجارب كثيرة على النطاق العالمي نجحت في محاصرة الوباء وقدمت نماذج في إدارة الأزمة نالت احترام الجميع مثل تجربة "المملكة المغربية الحبيبة، والمملكة الأردنية "وغيرهما يا حبذا لو اتبعت الجهات المعنية أحدهما بنظري لا يوجد مانع في ذلك.

وختاماً، أُؤكد على ضرورة الضرب بيد من حديد لكل من تسول له نفسه على مس الروح المعنوية لأفراد المجتمع، والتربص بأمنه واستقراره في هذا الظرف الحساس من حياة البشرية جمعاء، ومواجهة ظاهرة الأخبار الزائفة بصرامة وضبط مروجيها وتقديمهم للعدالة لينالوا جزاءهم.

أتمنى من الله تعالى أن يحفظ بلدنا والبشرية جمعاء من شر الوباء والبلاء.

حازم مصطفى شملخ باحث جامعي وناشط حقوقي في مركز إنماء الفلسطيني لحقوق الإنسان.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد