عمدت اسرائيل الى التعامل مع حماس في قطاع غزة في اطار المبدأ الاستعماري "فرق تسد"، وتمثلت سياستها في الابقاء على حكم حماس لقطاع غزة بشكل منفصل عن السلطة لإجهاض المطالبات الفلسطينية والدولية بتنفيذ حل الدولتين. واهتمت اسرائيل بأن يبقى هذا الحكم غير مستقراً حتى تبقى زمام المبادرة بيدها لفرض أي تصور سياسي على الفلسطينيين؛ فأبقت رأس الحكم فوق الماء، واحتوته من الخارج براً وبحراً وجواً، وابقته عنواناً تمارس عليه الردع كلما تعرض امنها لخرق. فاستنزفت قدراته بشكل متدرج وانهكته في ثلاث مواجهات خاضها لتحسين شروط استمراره، واستمرت في إدارة أزمات هذا الحكم الذي انزلق الى ادارة شؤون مليوني فلسطيني دون حلها، وأبقت على الاكسجين بيدها تمده به كلما ظهرت أي اعراض سريرية على اشتداد مرضه، وتبرعت قطر بدفع فاتورة الاكسجين.

عجزت معادلة الردع التي تبنتها حماس والفصائل مع الاحتلال عن تحقيق أهدافها، وربما قدم لنا امين عام حزب الله اللبناني في ظهوره الاخير السبب عندما حدد الردع الذي يؤلم الاحتلال بالردع الذي يتسبب بخسائر بشرية وليس مادية يمكن ان يعوضها. وبمقاربة هذا التفسير يبدو جلياً أن ما اعتبرته حماس والفصائل في غزة انتصارات قد فشلت في إحداث أي تغيير مهم في ميزان القوى على الأرض خلال المواجهات المسلحة مع اسرائيل، والتي كانت في أغلبها لتثبيت أركان حكم حماس في غزة باستخدام القوة.

وعندما فشلت حماس في انتزاع موافقة من الاحتلال على انشاء ميناء ومطار وممر مائي؛ لجأت الى التفاوض معه، رغم وصفها الدائم للمفاوضات بالعبثية عندما كانت تقوم بها السلطة الفلسطينية، والتي حققت من خلالها اختراقات كبيرة ليس أولها جواز السفر الفلسطيني ولا اخرها مطار غزة الدولي. المفارقة ان حماس التي استولت على الحكم بالقوة في غزة بحجة اطلاق يدها المكبلة لتقاوم الاحتلال قد عكست كثير من هذه الانجازات بمواجهات عسكرية غير متوازنة وفرت مبرر للاحتلال لتدمير هذه الانجازات وعلى رأسها تدمير مطار غزة الدولي الذي يعاني الاف الفلسطينيين في جميع دول العالم بسبب تدميره؛ وليس اخرها استبعاد البدء في مخططات ميناء غزة الذي كان قد وضع حجر اساسه.

عاش الشعب الفلسطيني في قطاع غزة اربعة عشر عاماً في حالة من السجال المستمر بين مفردات العدوان والمقاومة، والتهدئة والهدنة، وفك الحصار، وتحسين شروط الحياة. وكانت الفاتورة مرتفعة آلاف الشهداء والجرحى، والمنازل المهدمة، والمصانع المدمرة والاراضي المجرفة، ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والهجرة والمرض، مع استمرار حالة الالتباس الوطني دون استراتيجية ودون تكتكتيك. فلا استراتيجية عسكرية واضحة يعرف متى تبدأ أو تنتهي، ولا استراتيجية تفاوضية على غرار تجارب العالم تبدأ بخطوات وتنتهي بتحقيق أهداف واضحة. حتى التجربة الفلسطينية في التفاوض لم يتم الاستفادة منها فالمفاوضات مستمرة لقرابة اربعة عشر عاماً، دون اطراف دولية ضامنة، ودون فترة انتقالية محددة؛ ولا قضايا حل نهائي، عبر مبعوث قطري لا حول له ولا قوة وغير مؤثر ما تسبب بتفاقم الأزمة، وزاد من تعقيد المشهد، ولم يقدم حلول رغم دعم بعض الفصائل المصفقة الحاضرة المغيبة.

كل المحاولات خارج سياقات الوحدة الوطنية، والاجماع الوطني تعمل ضد ساعة الاستقلال والحرية، وتطيل من زمن ساعة الاحتلال؛ فهي محاولات في سياقات تحسين الظروف المعيشية، وليس تحقيق الاستقلال لمصالح فئوية أقل من حزبية. الخلل الاخر الذي يعتري هذا المسار ويعريه انه يغرقنا في التفاصيل، وي فتح باب التفاوض مع الاحتلال على مطالب صغيرة كالكهرباء والماء والأموال وتصاريح العمل والكهرباء ويبعدنا عن قانون التحرير والاستقلال الذي اختطته ثورات العالم والذي يبدأ بتحقيق الوحدة الوطنية والتركيز على انجاز الاهداف الكلية.

جاء تطبيق المسار التفاوضي المعروف بـ"التفاهمات" بشكل مقلوب بالتفاوض مع الاحتلال على مطالب ثانوية معيشية، مثل المنحة المالية، ومساحة الصيد، والكهرباء، والسلع مزدوجة الاستخدام وغيرها؛ وتم اغفال مناقشة الاهداف الكلية بالحرية والاستقلال. وبذلك وقعنا في فخ الاحتلال، وأدرنا أمورنا وفق قواعد اللعبة التي وضعها، ودخلنا في جولات تفاوضية مفتوحة على قضايا معيشية دون سقف زمني ودون نتائج؛ فسجل الاحتلال نجاحاً عندما جردنا من الاسس الاخلاقية لحربنا معه، ووضعنا في حالة انكشاف كطرف يبحث عن البقاء وتحسين ظروفه المعيشية وليس شعباً حراً أبياً يسعى للحرية والاستقلال في معركته التي بدأها قبل اكثر من مئة عام.

وهذا يدفعنا كأبناء للشعب الفلسطيني ان نسأل هل لدى حركة حماس استراتيجية لتحقيق الحرية والاستقلال؟ وما هي هذه الاستراتيجية؟ وهل لها جدول زمني؟ وهل قبول اسرائيل بزيادة حجم المنحة القطرية واطالة مدة صرفها الى ثلاثة سنوات يمثل السقف السياسي لحركة حماس؟ هل لو قررت قطر زيادة تبرعاتها وادخالها عن طريق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "انروا" او السلطة يعتبر انجاز وطني يستحق فاتورة التضحيات التي ندفعها، ويستدعي الاحتفاء واعلان النصر؟ يبدو أن المعادلة المفسرة هي الحفاظ على حكم حماس المنفرد لقطاع غزة، وايصال الاموال لها مباشرة لتستمر في الحكم دون ان يكون هناك مستقبل واضح لهذا الحكم، ولا الهدف منه دون قدرة على احداث تغيير في الوضع المعيشي للناس، ودون مردود وطني يخدم تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، ودون تفويض شعبي من المحكومين حتى يقبلوا استمراره.

تناولت تفسيرات الاحتلال لجولة التصعيد الاخيرة المترددة، وفقاً لبعض الكتاب الاسرائيليين، بعداً جديداً عزته الى التنافس داخل حماس في اطار الاعداد لانتخابات المكتب السياسي والتي ستفضي الى انتخاب رئيس جديد لهذا المكتب في مارس 2021. وبينت ان التنافس يدور بين الداخل والخارج والمحاور الداعمة لكليهما على من يملك أفضلية تأمين الاموال لحكم حماس في غزة خاصة مع عودة مشعل للمشهد السياسي الحمساوي. وبعيداً عن هذا التفسير يطرح التساؤل مجدداً هل يمتد هذا التنافس الى فكرة المصالحة؟ وهل رفضها يزيد من فرص فريق لصالح الاخر ام العكس؟

لماذا تخرج اصوات ضد الوحدة من داخل حماس في هذه الظروف القاهرة؟ من المعلوم ان افساح المجال لهذه الاصوات وكيل الاتهامات غير الموضوعية يشحن الاجواء ويزيد التوتر، خاصة وأن السلطة الفلسطينية قد سجلت مواقف واضحة ضد صفقة القرن ، وضد العلاقة مع ادارة ترامب، وضد الاتفاقيات مع الاحتلال بما في ذلك وقف كل انواع التنسيق، وموقف أكثر وضوحاً ضد التطبيع المجاني الذي قام به نظام ولي عهد الامارات محمد بن زايد مع الاحتلال. اذا لم تستطع حماس التغلب على كل الاصوات الكارهة للوحدة في صفوفها فإننا على موعد مع استمرار الظروف الحالية بنسخ اكثر قساوة دون حلول معيشية او وطنية خاصة في ظل تفشي وباء كوفيد 19 وتداعياته الصحية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى موعد اخر مع تحولنا في قطاع غزة من حكم اتوقراطي يمكن شفائه الى حكم اتوقراطي مزمن مستعصي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد