على ما يبدو لم يتمكن بومبيو من إقناع أحد بالسير على خطا الإمارات، أو الإعلان الصريح عن النية أو الرغبة في التطبيع الذي علّقت عليه الولايات المتحدة وإسرائيل آمالاً كبيرة، وهو الأمر الذي عبر عنه الرئيس ترامب ورئيس وزراء دولة الاحتلال في حينه بثقة كبيرة، وأوحيا بصورة مباشرة أن مسار التطبيع قد أصبح أمراً واقعاً وتحوّل إلى اتجاه عارم على مستوى الإقليم كلّه!


شيء ما يشبه خيبة الأمل عاد بها وزير خارجية الولايات المتحدة إلى وزارته دون أن يتمكن بشخصيته المتعالية والمتعجرفة، من حيث اللهجة وأسلوب التعبير، أن يكسر المعادلة التي باتت معروفة للمراقبين والمتابعين، وهي انخفاض وتراجع أهمية وزارة الخارجية الأميركية بالمقارنة مع دور صهر الرئيس ترامب، الذي يقود هذه السياسة بصورة تكاد تكون منفردة، بقدر ما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط وكل ملفاته الشائكة على الأقل.
الوفد الأميركي «المتضخم» الذي وصل إلى إسرائيل، سيصحب وفداً إسرائيلياً أكثر تضخماً إلى أبو ظبي للاحتفال بهذا الحدث «التاريخي» الذي يصرّ نتنياهو على وصفه، وكذلك كوشنر ومستشار الأمن القومي الأميركي، بهذه المكانة والأهمية، كما جاء على ألسنتهم في المؤتمر الصحافي، أمس.


لكن إليكم ما قاله نتنياهو بالضبط:«كلما انضمت دول عربية أخرى للاتفاقيات معنا أدرك الفلسطينيون أنهم على خطأ، وأننا لن نسحب مستوطناً واحداً من الضفة الغربية!


في حين أكد كبار الوفد الأميركي أن اتفاق التطبيع مع الإمارات هو اختراق كبير يجدر الاحتفال به بما يليق بهذا الاختراق التاريخي الكبير!
عودة كوشنر ليست للاحتفال فقط، حتى وإن كان للاحتفال الخاص والكبير ما يبرره من وجهة النظر الأميركية والإسرائيلية، ومن وجهة نظر قيادات نافذة في الإمارات.


عودة كوشنر هي محاولة مركّزة لتأكيد تمسك الإدارة الأميركية بهذا النهج - نهج التطبيع وحشر الفلسطينيين في زاوية الحصار والتجويع إلى أن يرضخوا، وإلى أن «يُسلّموا» بالأمر الواقع، واقع شرعية المستوطنات ووجود المستوطنين، وواقع السيطرة الإسرائيلية من النهر إلى البحر، والواقع الثالث الجديد والذي يتمثل في أن العرب «تجاوزوا» الحقوق الوطنية الفلسطينية وشرعوا بالتطبيع مع إسرائيل قبل أن ينال الفلسطيني شيئاً من هذه الحقوق، ما سيؤدي حتماً إلى تقزيمها وتحويلها فعلاً إلى مجرد معازل سكانية منفصلة ومحاصرة وتحت رحمة الاحتلال وسطوته وبما لا يتجاوز حكم بلدياتي على هذه المعازل.


ولكي يتحول هذا الحدث إلى حدث «طبيعي» ومتّسق، فقد أصدرت الحكومة الاتحادية في الإمارات قراراً بإلغاء قانون المقاطعة لإسرائيل، والذي يعتبر ساري المفعول منذ العام 1972 وحتى تاريخ إلغائه تحضيراً للتطبيع.


وعودة كوشنر بهذا الوفد الضخم من حيث المناصب وهذه الأهمية هي إشارة إلى باقي الدول المستهدفة من هذا النهج، بأن إدارة الرئيس ترامب لا تنظر إلى الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي نظرة «نفعية»، انتخابية أو اقتصادية من زاوية شراء وتكديس الأسلحة المتطورة بمئات مليارات الدولارات، وأن الهدف الأكبر و»الأسمى» من هذا كله تدشين عهد جديد في كامل منطقة الإقليم يقوم على التعاون والشراكة والتحالف بين «العرب» وإسرائيل ضد الأعداء المشتركين، ومن أجل الاستقرار والازدهار!


لكن الحقيقة التي تبقى رغم كل هذا التوجه، وكل هذا الصخب، وكل هذه الادعاءات والمزاعم، هي أن ترامب الذي فشل في كل شيء، ولم يحقق إنجازاً واحداً يمكن الاعتداد به لا داخلياً ولا خارجياً، والذي تبين بالمشخص والملموس أنه من جماعة (عِكّ عكاك) أكثر من أي شيء آخر، وأنه (الرئيس ترامب) يرتعد خوفاً من سقوط «تاريخي» أكبر بكثير من تاريخية الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي، وأن صديقه نتنياهو يعاني الأمرّين هو الآخر، وأن حزب «الليكود» الذي يقوده ويتزعّمه على طريقة زعماء جمهوريات الموز البائدة، قد خسر أكثر من خمسة عشر مقعداً في أقل من شهرين، وأنه اليوم لن يتحصل على أكثر من ثمانية وعشرين مقعداً، مع أن هذا الحزب كان قد وصل في استطلاعات الرأي آنذاك إلى حوالى ثلاثة وأربعين مقعداً بالتمام والكمال.


هذا الانحدار، والذي هو مفارقة سياسية من أثقل العيارات السياسية في تاريخ إسرائيل، يفسرها الكمّ الهائل من الأكاذيب والألاعيب التي أصبحت معادة ومكررة وممجوجة لأهل اليمين فيها قبل غيرهم، وأصبحوا يرحلون عن تأييد حزبه ويهاجرون إلى أقصى اليمين، أو يستنكفون عن ملاحقة لعبة القط والفأر التي لعبها نتنياهو على مدى سنوات كاملة.


كوشنر بضربة واحدة سينحّي بومبيو عن ملف الشرق الأوسط، وسيهمّش وزارة الخارجية، وسيحولها إلى منصة إعلامية من الدرجة الثانية، وسيكرس نفسه أنه الرجل الأقوى بعد ترامب، وأن «بنس» نفسه ليس على درجة كبيرة بالمقارنة مع أهمية مكانته ودوره في البيت الأبيض.
هنا يبدو أن كوشنر لم يتعلم من درس «المنامة»، ولم يشعر بالهزيمة الكاملة.


لماذا يعود ويكرر المحاولة حتى إن كانت الخطوة الإماراتية أكبر وأخطر بكثير من مؤتمر المنامة.


يعود كوشنر لأنه لا يملك خيارات بديلة! لا هو ولا رئيسه ترامب!


الآن وكما أرى في المشهد الانتخابي الأميركي أصبح ظهراهما إلى الحائط.


فإما الاستماتة في إحداث اختراق جديد يؤكد على أهمية ومحورية نهج التطبيع ومحاصرة شعب فلسطين وحقوقه وأهدافه، والعمل على تقزيمها وتهميشها وتهشيمها، أيضاً، لكسب كاسح لأصوات الإنجيليين وبعض الأصوات اليهودية، أو السقوط المدوّي المحتوم أمام الحزب الديمقراطي الذي يستمرّ بالإعلان عن تأييده الكامل لـ «حلّ الدولتين»، وعن رفضه التام والكامل «للضم»، ما يضع ترامب وفريقه أمام مشكلة متعاظمة.


يعود كوشنر وهو يحدوه الأمل حتى لو بإعلان دولة واحدة - حتى لو كانت صغيرة - أنها على هذه الدرجة من الاستعداد للتطبيع حتى لو بصخب أقل وأشكال مواربة للإعلان عن هذا الاستعداد.


أغلب الظن أن كوشنر سيعود بخفّي حُنين كما عاد من المنامة في حينه، لأنه ليس سهلاً، أو لنقل: إنه لم يعد سهلاً عليه وعلى رئيسه أن يعثرا بسهولة ويُسر على دولة لديها نفس الاستعداد والجاهزية التي كانت عليه الإمارات وما زالت على ما يبدو.


ولهذا كله، فإن المسألة طالما هي نجاح ترامب من عدمه، أو بقاء نتنياهو أو رحيله، فإن الانتخابات الأميركية تهمّنا إلى أبعد الحدود.


ليس معنى ذلك أبداً أن نجاح الحزب الديمقراطي ورحيل ترامب سيحلّا المشكلة أو يُرجعا إلينا حقوقنا، ولكن سقوط ترامب هو سقوط هذا النهج بالكامل، وهو الأمر الذي يعني أننا سنكون في وضع «درء المفاسد» والتي هي أهم من «المنافع» في ظروف تاريخية معيّنة.


والحديث عن أن كلا الحزبين ووضعهما في سلّة واحدة ليس فيه من الحكمة والحنكة ما يشي بالانتماء إلى علم السياسة من قريبٍ أو بعيد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد