إذا أردنا الدقة فإن الاتفاقية الأميركية الإسرائيلية الإماراتية ليست اتفاقية تطبيع فقط، لأن التطبيع يمكن أن يبقى محصوراً في أنواع معينة من العلاقات الاقتصادية والتجارية التي بدورها تخضع في غالب الأحيان لشروط تجارية من العرض والطلب، أو درجة الاحتياج الخاص لبعض السلع من قبل هذا الطرف أو ذاك، إضافةً إلى نوعية السلع وأسعارها ومستوى تنافسيتها.
ويكاد ينطبق كل ذلك على الخدمات بما فيها الأمنية والعسكرية والمنظومات الخاصة بهذا القطاع الخاص وكل مستلزماتها اللوجستية.
وإذا انتقلنا إلى الشق السياسي للتطبيع فإن العلاقات السياسية يمكن أن تبقى محصورة في تبادل التمثيل الدبلوماسي على مستوى السفراء أو على أي مستويات أخرى، والبروتوكولات الملازمة لمستويات التمثيل.
هذا النوع من العلاقات موجود بالفعل اقتصادياً وسياسياً في بعض الجوانب بين كل من جمهورية مصر العربية، والمملكة الأردنية الهاشمية من جهة وبين إسرائيل من جهة أخرى.
وهناك من أشكال التنسيق والتعاون ما هو متعدد المجالات والأوجه، وما هو واسع في مجالات معينة وضيق إلى أبعد الحدود في مجالات أخرى.
هذا طبعاً كله في إطار المعاهدات المبرمة بما في ذلك العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية التي فرضت على الجانب الفلسطيني بموجب اتفاقيات أوسلو، مع إدراكنا التام لخصوصية الوضع الفلسطيني، ومحاولات إسرائيل المتواصلة للتنصل من تلك الاتفاقيات والإبقاء فقط على ما يوفر لإسرائيل مصالحها الخاصة، وما يمكّنها من الإبقاء على احتلالها وسيطرتها وتحكّمها بالاقتصاد الفلسطيني، وكل موارده الرئيسية، وثرواته الطبيعية، إضافة إلى سيطرتها وتحكّمها بالمعابر والحدود، وحركة السلع والعمالة، وصولاً إلى أدق تفاصيل الحياة في الأرض الفلسطينية المحتلة.
على الرغم من وجود هذه العلاقات بين مصر والأردن من جهة وبين إسرائيل من جهة أخرى، وعلى الرغم من وجودها بين السلطة الوطنية وإسرائيل إلاّ أن هذه العلاقات بقيت «باردة» سياسياً في الحالة المصرية وشبه مجمّدة في الحالة الأردنية ووصلت إلى القطيعة التامة في الحالة الفلسطينية.
وتتراوح الأمور من الناحية الاقتصادية والتجارية بين مجال وآخر وبين قطاع وآخر، وتكاد صفقات الغاز تكون المعلم البارز الوحيد الذي يمكن اعتباره تعاوناً وتبادلاً تجارياً جدياً ومؤثراً.
في الحالة الفلسطينية الأمور التي نظمها بروتوكول باريس تجاوزها الزمن، وتجاوزتها إسرائيل، وليس هناك، اليوم، من ناظم موحّد للعلاقة التجارية مع إسرائيل، والأمور أشبه بالفوضى التجارية، مع العلم أن هذه الفوضى هي تحت السيطرة والتحكّم الإسرائيلي.
وحتى عندما يتعلق الأمر بالتنسيق الأمني فهو محصورٌ جداً في الحالة الفلسطينية الإسرائيلية بما في ذلك الجانب المدني منه، وهو تنسيق تنظمه المعاهدات في الحالة المصرية والأردنية.
باختصار، فإن هذا التطبيع هو بحكم المفروض في الحالة الفلسطينية، مع قطيعة سياسية، وهو بحكم الموجود بموجب المعاهدات في الحالتين المصرية والأردنية مع برودة سياسية في الحالة المصرية وجمود سياسي في الحالة الأردنية.
وسواء اتفاقيات أوسلو أو المعاهدتان فإن الأمر يتعلق هنا بصراع دام عقودا وعقودا، وحروب على مدى عقود ممتدة، كما يتعلق بالحدود «المشتركة»، ويتعلق بالتأثير والتأثر المباشر للأطراف العربية الثلاثة بقضايا الحل النهائي بما في ذلك قضية اللاجئين وقضايا جوهرية كثيرة، وخصوصاً الطرف الفلسطيني.
فما هي علاقة دولة مثل الإمارات العربية المتحدة بكل هذا المعمعان، وما الذي يجبرها على ما أقدمت عليه، وهي لم تكن في يومٍ من الأيام على علاقة مباشرة بهذا الصراع الذي يمتد منذ أكثر من قرن كامل الزمان؟
كل اتفاقية تطبيع للعلاقات بين أي دولة عربية أو إسلامية وبين إسرائيل من خارج «دول الطوق»، ومن خارج ساحة الصراع المباشر ليس لها إلاّ تفسير واحد ووحيد.
فإما أنّ الصراع في هذه المنطقة قد انتهى إلى السلام المتوافق عليه، وإما أن «السلام» القادم بات مفروضاً من الطرف الأقوى ودولة الإمارات توافق عليه.
لا يوجد أي خيار آخر في هذه المعادلة.
وبما أن السلام المتوافق عليه لم يقم بعد، بل هو أبعد، اليوم، من أي وقت مضى، لا يتبقّى أمامنا سوى أن الإمارات باتت توافق على المفهوم الأميركي والإسرائيلي للسلام.
أما لماذا توافق الإمارات على هذا المفهوم للسلام فهذه مسألة تحتاج إلى توضيح خاص.
تستطيع الإمارات أن تعيش ألف سنة قادمة دون أن تحتاج إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وهي ليست بحاجة إلى إسرائيل لا اقتصادياً ولا تجارياً ولا حتى أمنياً وعسكرياً، وباستطاعتها في ظل وفرة الموارد لديها أن تشتري أعلى مواصفات تقنية في العالم لكل ما تحتاجه من «الأسواق» العالمية، بما فيها الأسواق الأميركية.
ولا تحتاج الإمارات لخبرات إسرائيل لأن الخبرات الإسرائيلية ليست سوى نسخة خاصة مصغّرة عن الخبرات الأميركية والغربية.
المسألة أبعد وأكبر وأخطر من هذا كله.
الموضوع ببساطة أن ترامب قد أمسك بعض دول الخليج من «زمّارة الرقبة»، ووضعها أمام التحدي التالي:
أنا أحتاج اليوم لكم، وأحتاجكم أنا وأخي وصديقي نتنياهو، لأننا نعيش في مأزقٍ خطير، فإما أن نكون أو لا نكون.
أنا أعيش وكذلك أخي وصديقي نتنياهو أمام مفترق أخطر، فإما أن نبقى في الحكم، وإما أننا سنهوي إلى القاع، الوضع الاقتصادي هنا يتدهور، وفي إسرائيل كذلك، أنا أواجه أزمة في مواجهة بايدن والتظاهرات في القدس وتل أبيب تمتد يوماً بعد يوم، الاقتصاد الأميركي في أسوأ حالاته وهو مرشّح لمزيد من التدهور، والمؤشرات الاقتصادية في إسرائيل ليست أقلّ سوءاً.
نحن بحاجة إلى أن ننشئ حلفاً جديداً، دعونا نسمّه تطبيعاً، لكن أنتم تفهمون قصدي.
إذا عاد الديمقراطيون ستعود إيران أقوى مما كانت عليه، وستتعرضون إلى أخطارٍ أكبر بكثير وبما لا يقاس مما تعرضتم له حتى الآن.
إذا بدأنا هذا الحلف ستنقذون الوضع هذا، أو تساهمون في إنقاذه، وستكون مساهمتكم في إنقاذ نتنياهو واليمين هناك ذات قيمة لا تقدّر بثمن.
هيّا لنتقدم في هذا المشروع والذي هو حلف شرق أوسطي جديد، ولا تخشوا أحداً من العرب والمسلمين، فمعظمهم على ضمانتنا، وإخوانكم في المملكة العربية السعودية ربما لأسباب نعرفها جميعاً لا يستطيعون تدشين هذا الحلف، وكذلك أنتم تعرفون الإمكانيات المتواضعة لإخوانكم في البحرين، وحتى ان إخوانكم الآخرين لديهم بعض المخاوف والتردد، وأنا أتفهّم ظروفهم.
أما أنتم وبما عُرف عنكم من ريادة، ومن إقدام، فإننا نطلب منكم أن تقوموا بهذا الدور، والولايات المتحدة تحتاجكم، اليوم، للقيام به.
تقدموا قبل فوات الأوان، وقبل أن تطبق إيران على بلادكم ومستقبل الحكم لديكم.
هذه هي فرصتنا الأخيرة لقلب المعادلة قبل فوات الأوان، لا تهتموا بأحد، ولا تخشوا ردود أفعال الفلسطينيين، فهم منقسمون، وأوضاعهم مزرية ولن يصمدوا طويلاً، وحصارهم قادم وسنعرف كيف نركّعهم.
تقدموا ولا تخشوا أحداً، وإلاّ أنتم الخاسرون أولاً وأخيراً، والولايات المتحدة وإسرائيل من خلفكم فلا تتردّدوا.
الباقون سيلتحقون وحصار الفلسطينيين سيكون مطبقاً وخانقاً وحاسماً.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد