بدأ النظام الاقليمي في الشرق الاوسط بالانهيار تدريجيا، وبدأت تتشكل ملامح نظام جديد، وأصبحت حالة عدم اليقين هي السائدة، فدول وازنة في ميزان القوى الاقليمية مثل سوريا والعراق قد انهارت وتبعتها ليبيا، ولا زالت هذه الدول غارقة في حروب اهلية دموية. ولا تزال الحروب الأهلية تعصف باليمن والصومال اللتان تحولتا الى دولتين فاشلتين غير قادرتين على ضمان الأمن والاستقرار المالي والخدمات الأساسية لسكانهما. وإلى جانب هذه التغييرات تصاعد التنافس الجيوستراتيجي الاقليمي بين ثلاثة محاور هي: المحور الايراني والمحور العربي والمحور التركي. وتسعى الدول المتنافسة إلى زيادة وزنها الاستراتيجي في المنطقة من خلال الوسائل العسكرية والاقتصادية والثقافية والدينية والدبلوماسية. ويمكن أن يتخذ هذا التنافس أشكالًا مختلفة مثل حرب بالوكالة او حرب إقليمية واسعة النطاق، أو خلق توازن قوى إقليمي، أو تحول احد المحاور الى قوة مهيمنة في المنطقة. وصاحب ذلك حضور اسرائيلي قوي مدعوم امريكياً وظيفته اللعب على التناقضات، وتغذية الخلافات والصراعات، والإيحاء لكل محور بقدرته على حسم المنافسة لصالح المحور الخصم حال اصطفافه معه.

أعطت اسرائيل اشارات للمحور التركي القطري الاخواني على قبولها الخارطة الجديدة للمنطقة التي وضعتها الولايات المتحدة للمنطقة في عهد ادارة اوباما، على قاعدة تسوية القضية الفلسطينية وفقاً لرؤيتها وتتمثل في دويلة غزة الموسعة باتجاه سيناء ومعازل في الضفة تحت مسمى حل الحدود المؤقتة، وهو حل دائم ليس فيه مؤقتاً الا اسمه، ويمثل نسخة عن صفقة القرن . وقد أبدى الاخوان في زمن الرئيس الاخواني محمد مرسي الموافقة على تنفيذه حيث قبل مرسي التوقيع على هدنة بعد عدوان 2012 لوقف اطلاق النار في غزة دون حضور منظمة التحرير الفلسطينية في خطوة بدى واضحاً انها تحضير لتنفيذ الصفقة. أما البديل حال عدم تعاون تركيا فكان اصطفاف اسرائيل مع انظمة المنطقة من خلال حث الادارة الامريكية على وقف تنفيذ مسلسل تغيير الانظمة. وهو ما يعني افشال تنفيذ الاستراتيجية التركية المتمثلة في اعادة بعث الحكم العثماني للمنطقة، وهو المشروع الذي كان من شأنه أن يحقق الهيمنة الاقليمية لتركيا، ولكن المشروع التركي تعثر لأسباب عديدة.

مثلت التطورات خطراً وجودياً على المحور العربي، وتهديداً مباشراً لبقاء انظمته الحاكمة، حيث صارع هذا المحور مع كل الضعف الذي لحق به جراء الفوضى على جبهتين: الاولى معركة على البقاء في مواجهة المخططات التركية للسيطرة على المنطقة بالتعاون مع قوى الاسلام السياسي، والتي نجحت حتى الان في السيطرة على أجزاء هامة من ليبيا وسوريا العراق، بالإضافة الى تواجد عسكري في قطر. والثانية في مواجهة أطماع ايران التوسعية التي بدأت تسيطر فعلياً على العراق واليمن ولبنان وتتقاسم السيطرة على سوريا مع روسيا.

وقد برز الدور الاسرائيلي هنا مجدداً حيث قدم نفسه حليفاً ومخلصاً للمحور العربي سواء لجهة ثني ادارة ترامب عن الاستمرار في مسلسل تغيير الانظمة فيما عرف بثورات الربيع العربي، أو مساعدتها للنجاة من محاسبة الكونغرس لها على أخطاء الحكم المتكررة، أو لجهة الاستعداد للانخراط في مواجهة محاولات التوسع الايراني في المنطقة وتهديداته لأنظمة الخليج. ويحقق هذا الاصطفاف أهداف استراتيجية لإسرائيل تتمثل في اعاقة مشروع ايران النووي، ومنع تحولها لقوة اقليمية، وازاحتها هي وتركيا من منافستها على الهيمنة الاقليمية. أي ان اسرائيل تستخدم العرب ومخاوفهم التي ساهمت في تضخيمها، ومواردهم بشكل عكسي لتحقيق تفوقها الاقليمي.

وقد أعلنت عدة أنظمة عربية صراحة عن تعرضها لتهديد وجودي ايراني، ولم تخف حاجتها الى التحالف مع اسرائيل لمواجهة التهديدات والاطماع الايرانية. قدمت اسرائيل وبدعم امريكي عربون الصداقة بتراجع ترامب عن اتفاق اوباما النووي مع ايران، وفرض عقوبات اقتصادية عليها، وزادت قيمة العربون بضرب القوات الايرانية في سوريا واغتيال سليماني والذي كان من تداعياته تعزيز العلاقة بين هذا المحور واسرائيل، وليس اخيراً استهداف حزب الله في لبنان. في المقابل طلب من هذا المحور تأييد صفقة القرن، فإسرائيل لن تقدم ما تقدمه مجاناً بل تريد احتلال ما تبقى من أراضي فلسطينية، أي أن المطلوب أن تدفع فلسطين فاتورة استمرار حكم هذه الانظمة.

تدرك ايران ومحورها قواعد اللعبة الاقليمية، لذلك تستمر في التوسع والمواجهة في اطار المسموح لها كدولة وظيفية ارتبط بقائها بإدخال المنطقة في صراع طائفي لا ينتهي نظراً لطبيعة نظام الآيات الطائفي الحاكم الذي تم تسهيل ظهوره على انقاض نظام الشاه لهذا الغرض من بين اغراض اخرى. هذا الادراك لدورها منحها المساحة للمناورة في اطار المسموح مع الادارة الامريكية واسرائيل، فالسلاح يتدفق للحوثيين في اليمن، وارامكو تقصف، والدعم مستمر لحزب الله، ولعبة المواجهة مع اسرائيل في سوريا ضمن قواعد التصعيد المقبول فليس المطلوب اسقاط النظام الايراني بل احتوائه داخل حدوده بما لا يعيق تحول إسرائيل الى قوة اقليمية مهيمنة. وقد حاولت ايران تخفيف الضغط عليها في لعبة المحاور فلجأت الى عمان للوساطة مع اسرائيل وكان لقاء سلطانها ووزير خارجيتها برئيس الوزراء الاسرائيلي لإبقاء قواعد اللعبة دون اغراق السفن بينهما، وامتنعت ايران عن الرد على استهداف قواتها في سوريا، وردت بشكل باهت على مقتل قاسم سليماني قائد الحرس الثوري الايراني.

الى جانب دورها في اذكاء الصراعات في المنطقة لعبت ايران دوراً خطيراً في الملف الفلسطيني حيث عملت على افشال العملية السياسية من خلال تمويل وتسليح عمليات عسكرية غلب عليها الطابع السياسي استخدمتها في اطار استراتيجيتها التوسعية في المنطقة تحت يافطة الممانعة. واصبحت توظف تمويلها وتسليحها لبعض الفصائل في ادارة اللعبة الاقليمية مع اسرائيل والمحاور الاخرى. وبذلك اعاقت مخططات استبعادها من ترتيبات المنطقة في اطار عملية السلام، واعاقت الهيمنة الاسرائيلية عبر السلام، وأبقت الدول العربية ارضاً خصبة للاختراق تحت عنوان المقاومة. وهكذا وبوجود تخطيط او غيابه، أصبحت علاقتها بإسرائيل سيامية فهي توظف وجود اسرائيل لاختراق الدول العربية شعبيا بحجة دعمها المقاومة، بينما تحتاجها اسرائيل كفزاعة لإقناع أنظمة المنطقة وخاصة المحور العربي لتقديم نفسها كمخلص في مواجهة أطماعها التوسعية مقابل فلسطين.

اسرائيل تدرك ان صراعها بالدرجة الاولى مع محيطها العربي خاصة وانها قامت على احتلال اراضي فلسطين العربية الى جانب استمرار احتلالها اراضي عربية اخرى، لذلك فالأولوية بالنسبة لها هي اقامة علاقات سلام مع هذا المحيط القريب لتحسين وضعها الامني استراتيجياً ومحاولة الهيمنة عليه مجدداً عبر البوابة الاقتصادية والتكنلوجية والامنية. لذلك اتجهت الى تعزيز العلاقات مع عدد من الدول العربية فيما تعتبره دائرة مهمة لأمنها الاستراتيجي الى جانب دائرة شرق المتوسط ودائرة شرق افريقيا. ولا يحقق لها السلام مع ايران او تركيا كقوى منافسة لها على الهيمنة الاقليمية الاستقرار والهيمنة، ولا ينهي حالة العداء مع جيرانها العرب. لذلك كان خيار اسرائيل تفكيك الدول العربية واعادة تركيبها على اساس عرقي وطائفي بمساعدة الولايات المتحدة الامريكية لتدور في فلكها في اطار فرض الهيمنة الاقليمية، وعندما تعثر المشروع لأسباب عديدة عادت لمخطط الشرق الاوسط الجديد لإعادة تشكيل النظام الإقليمي العربي لصالحها، وانهاء عزلتها والرفض العربي لوجودها، وتوفير المجال الحيوي لاقتصادها بتوسيع السوق أمام صادراتها، والسيطرة على الموارد الاقتصادية العربية عبر المشروعات المشتركة، لتصبح محور التنمية الاقتصادية، ولتبقي الطرف العربي في حالة من التبعية والاعتماد عليها أمنياً واقتصادياً وتكنلوجياً بل وسياسياً في وجه تغير سياسات الادارات الامريكية تجاه انظمة المنطقة، ومالياً نظراً لنفوذها في مراكز النظام الرأسمالي العالمي بما يضمن لها هيمنة مطلقة دون تهديد مستقبلي وضمان عدم ظهور أي مشروع عربي وحدوي يهدد بقائها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد