أسجِّل في التاسع عشر من آذار 2002: طبول الحرب تقرع بقوة معلنة عن جاهزيتها. ذرائع الاحتلال، وغالباً ما تصاغ مفرداتها من صراخ وبكائيات، استعراض الخسائر البشرية واستطالة الجنازات المؤثرة للجنود وصديقاتهم والوجود المهدد بالرمي في البحر. ومما سجلت: الاسم المختار بعناية دائرة الحرب النفسية في جيش الاحتلال للعملية - الحرب.
دائرة الحرب النفسية لا تخذل الذرائع المرجوّة. «السور الواقي»، هو الاسم الذي تُجمع عليه الدائرة، والهدف: الفزاعة والتحريض، وتركيز الأنظار على المخاطر المحيطة بالشعب المسالم وحمايته من التهديد الفلسطيني، لولا هذا لما كانت فكرة السور!
استكمال الدائرة لخطابها، الهجومي الدفاعي. وأن يسبق اسم السور الواقي كلمة عملية، ابتغاء طمأنة المجتمع الدولي وخلق الانطباع عن محدودية نطاق الحدث: الجغرافي والموضوعي، ولسان حالهم بأن لا داعي استعجال الحراك والتدخل.
في هوامش دفتري الخاص بالاجتياح، أسجل أرقاما مأخوذة عن المصادر الإسرائيلية. فالأرقام تسند الذرائع وتغنيها، والخسائر الإسرائيلية البشرية في اللبّ من تبرير المعركة. فيظهر فجأة مصطلح «آذار الأسود»، وفي هوامشي: «مقتل مائة وخمسة من «المدنيين» الإسرائيليين ومقتل ستة وعشرين جنديا إسرائيليا جرّاء العمليات الفلسطينية في قلب الجبهة الداخلية». مختصرات حول استدعاء الاحتياط، حشود على مدخل نابلس الجنوبي، أذيِّل في نهاية الصفحة تعليق مختصر: الدم اليهودي الأزرق.
صباح العشرين من آذار أكتب: «نابلس»، المدينة التي تملك طعما حريفاً ولونا خريفياً وحنجرة عالية. إنها البلد التي ترغب دائما في التمايز والفرادة. تحتشد لإثبات خصوصيتها.
وفي المساء أقول: المدينة التي تشبه في حركتها قالب «الجلي»، هلامية متماسكة، تموج بدلال ذات اليمين واليسار، إنْ رَضِيَت نابلس واكتفت، تُقبِل باقي المدن. مدينة الفاطميين تثور وتنتفض، تبيع وتشتري، العلّة والدواء، تتصارع ومن ثم تذهب للعزاء، ولا تهدأ إلا باقتراب الجبليْن من بعضهما، وحوار جبل النار مع جبل الماء، وبعد أن يتسوق شرقها مع غربها. نابلس التي تتوشوش صباحا على وقع قرقرة الأراجيل، تعود في المساء لتدقيق التفاصيل وتبادل الإشاعات والحكايات.
الخامس والعشرون من آذار: البلدة القديمة تستقطب الشباب من مختلف التنظيمات، إشاعات عن تفخيخ المداخل وإعاقة الاقتحام. المدينة توزع المهام على أهلها، يكلفني محافظ المدينة جمع أخبار الحي الذي أقيم به القريب من جامعة النجاح وتزويده بها. أتجاوز مهمتي وأعمل شبكة مفاتيح أغلبها نسائية، للتزود بالمعلومات.
29 آذار- اجتياح رام الله : فلسطين تشاهد اغتصاب رام الله في بثٍّ حي ومباشر. البلدوزرات تنهش لحم المقاطعة، الرئيس ابو عمار يهتف شهداء بالملايين على القدس رايحين. يا وحدنا.
الثاني من نيسان: مجزرة مخيم جنين، الروائح تزكم الانفاس، بطولة وأثمان باهظة، وحدة في الميدان. دمار وركام وهجرة.
مساء الثالث من نيسان. يوم نابلس:
الاحتلال لديه خطة أخرى لاقتحام المدينة، قصف كثيف مركز على البلدة القديمة تنهار بناية في وسطها بقصف طائرات آلاف 16، تفريغ البلدة من سكانها للتفرغ للشباب. اقتحام البلدة القديمة بتفجير المحلات التجارية المحيطة بها. عشرات القتلى ومئات الجرحى، المستشفى الميداني لا مكان لرجل مبتورة، الدواء والمستلزمات تنفذ، لا احد يستطيع الوصول لمستشفيات المدينة الفارغة. قصف جنوني لباقي أطراف المدينة، ولقطة سريعة تمر: المستشفى الميداني، شهداء وجرحى بجانب بعضهم البعض على الأسرة..ولقطة أخرى لفئران تحوم حول الجثث في منتصف الساحة التاريخية.
اليوم العاشر للاجتياح:
يمشطون شارعنا، جميع البنايات والشقق و»الفلل» تتعرض للتفتيش، تناقل الجارات أخبارا عن سرقة الجنود للبيوت، استخدام الأهالي كدروع بشرية، وعن القاء الأكل والتموين من نوافذ البيوت التي يشكون بأمرها، كالعثور على راية لأحد الفصائل.
لم يبق في الشارع سوى العمارة التي أقيم بها. جاراتي يقرأن المعوذتين لتعمية الجيش عن دخول البناية، أمزح مع الداعيات مطالبة تكثيف الأدعية، انهم يقتربون منا. أنتقل لإقناع الابن في الانضمام إلى نقاش محتدم بين ذكور العمارة، يذهب مستغرباً. أسرع في تمشيط غرفته، أخلع ملصقات أصدقائه الشهداء، أعتذر من صور «جيفارا» كذلك، أضع الصور والرايات والأعلام تحت «الموكيت». يستنكر فعلتي الصادمة ساخراً: لماذا أبقيت على صورة والدي! «على جثتي» أصرخ..
اليوم الحادي عشر: تثمر الجهود ويتم اخلاء شهداء البلدة القديمة، لقطة سريعة لشباب يرتدون السترات البرتقالية، على أكتافهم شهداء وجرحى، حزن وكبرياء. الثلاجات تغص بالشهداء، ولا خيار سوى الدفن المؤقت في ساحات البيوت والمستشفى.
قصف ومداهمات، تمشيط للبيوت، المدارس تكتظ بالأهالي، الجيش على مداخل المستشفيات بحثا عن المطلوبين. طوابير المعتقلين المقيدين بالشرائط البلاستيكية والمعصبة عيونهم، ولادات تتم على الهاتف، استغاثات من تحت الأنقاض، انتشال رجل نحيل وزوجته السمينة من تحت انقاض منزلهم المدمر.
اليوم الأخير: تنهض نابلس من اجتياحها بعد ثمانية عشر يوما، تنهض تتفقد نفسها..كأن زلزالاً عبث بأحشائها. تمييزها بالاجتياح الأطول زمنياً.
بعد ثلاثة عشر عاماً أسجل: هل من قيمة ترجى لبعث ذاكرة الاجتياح بعد كل هذه السنوات، هل من فائدة تُذكر من علك الوقائع دون تفعيل ارادة تجاوز الخطايا المرتكبة، وهل تستحق البديهيات والفضائل التوقف أمامها من أجل إعادة الاعتبار لمبادئها، هل سيخصص لها محل من الإعراب في كتب النحو الفلسطيني.
وأسجل: نحن ما زلنا نراوح حول ذات المعطيات السلبية، وما زلنا نخسر الأرض ونخسر الشعب، غير متأكدين أمام أي مشروع وطني نقف. وأسجل، نحن نُهزم لأننا نتحدث بالشيء ونعمل النقيض، ولأننا نعبِّر عن عقل فئوي، مهزوم ومأزوم وعالق، ولا يتحول للإجابة على أسئلة تحقيق الانتصار.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية